ترجل الفارس النبيل، السلطان قابوس بن سعيد، سلطان عُمان الشقيقة، عن صهوة جواده، بعد أن أدى الأمانة على أحسن ما يكون، وصنع نهضة عُمان الحديثة.. رحل آخر القادة المؤسسين لدولنا الخليجية الحديثة، بعد أن أمضى نحو نصف قرن في الحكم، شهدت عُمان خلالها تطورات كبيرة في مختلف المجالات التنموية، نقلت هذا البلد الشقيق من مرحلة العزلة والاضطرابات إلى مرحلة الرخاء الاقتصادي والانفتاح على العالم.
لقد أحدث السلطان قابوس، رحمه الله، تغييرات جذرية في بلاده، على الصعد كافة، جعلته يحظى بحب شعبه وكل الشعوب الخليجية والعربية، فعلى المستوى السياسي، أرسى دعائم سياسة عمان الخارجية التي تميل إلى الحياد، وترفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتحرص على كسب مودة وثقة واحترام جميع الدول، وهو ما جعل من عُمان مكاناً مناسباً لجهود الوساطة وتسوية النزاعات الإقليمية والدولية على السواء، كما كان، رحمه الله، من مؤسسي مجلس التعاون الخليجي وعمل بقوة على دعم جهود هذا المجلس في مجال تعزيز علاقات التعاون والوحدة بين دول الخليج وشعوبها.
وعلى المستوى الاقتصادي، نجح السلطان قابوس في قيادة سلطنة عُمان إلى مرحلة الرخاء الاقتصادي بالرغم من مواردها النفطية المحدودة، كما أحدث تغييرات كبيرة في المجالات الثقافية والتعليمية، حتى عرف وبحق بأنه مؤسس عمان الحديثة وصانع نهضتها.
إن رحيل قائد بحكمة السلطان قابوس، رحمه الله، هو بلا شك خسارة كبيرة لعُمان ولمنطقتنا الخليجية العربية، ولكن ما يخفف من شعور الحزن على فراق القادة الحكماء في دول الخليج ومؤسسيها هو أنهم تركوا من بعدهم دولاً ناهضة قوية راسخة البنيان، لديها إمكانات التطور وأسس الانطلاق الواثق للمستقبل، وهذه سمة تشترك فيها دول مجلس التعاون الخليجي، وهو ما يؤكد سلامة النهج الذي اتبعه القادة المؤسسون في دول الخليج.
ولعل في طريقة الانتقال السلس للحكم في سلطنة عمان، من السلطان قابوس، إلى جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور آل سعيد، والتي شهدتها جميع الدول الخليجية الأخرى، ما يؤكد قوة بنيان الدولة الوطنية، التي أرسى دعائمها هؤلاء القادة المؤسسون، فمن يتابع مراكز الأبحاث الدولية يرى أنهم يشغلون أنفسهم بالحديث عن سيناريوهات «سوداوية» لطرق انتقال الحكم في دولنا الخليجية، وفي كل مرة تثبت هذه الدول أن لديها قواعد راسخة في عملية انتقال الحكم بشكل سلس، يضمن استمرار نهضتها الحضارية وعدم حدوث انقطاع في مسارها التنموي، في الوقت الذي تتعثر فيه كثير من تجارب الحكم عبر العالم في تحقيق مثل هذا الانتقال.
لن تشهد سلطنة عُمان تغيرات كبيرة في سياستها الخارجية أو الداخلية التي أرسى دعائهما السلطان قابوس، رحمه الله، بالنظر إلى ما حققته هذه السياسة من مكاسب كبيرة لعُمان داخلياً وخارجياً، وهذا ما أكده بوضوح السلطان الجديد هيثم بن طارق بن تيمور آل سعيد، الذي تعهد في خطاب التنصيب بمواصلة النهج ذاته، الذي اتبعته عمان في سياستها الخارجية، التي وصفها بأنها تقوم على التعايش السلمي والحفاظ على العلاقات الودية مع كل الدول، فضلاً عن تعزيز جهود التنمية والاستقرار الداخلي في السلطنة.
برحيل السلطان قابوس، رحمه الله، وتولي جلالة السلطان هيثم بن طارق الحكم في السلطنة، تبدأ عُمان الشقيقة مرحلة جديدة من مسيرة تطورها الإنساني والحضاري والتنموي، وهي مرحلة لن تشكل انقطاعاً عن الإرث الطيب، الذي خلفه السلطان قابوس بن سعيد، ولكنها أيضاً ستكتسي بروح وطموح القيادة الجديدة للسلطنة، الحريصة على تعزيز مكانة عُمان ودورها التاريخي والحضاري والإنساني العريق.
رحم الله السلطان قابوس بن سعيد، الذي رحل بجسده، لكنه سيبقى حتماً في وجدان شعبه، فالقادة العظام يخلدون في ضمير أمتهم وشعوبهم، وأدام الله على سلطنة عمان الشقيقة وشعبها نعمة الأمن والرخاء والاستقرار تحت قيادة سلطانها الجديد.