يدخل الرئيس الأمريكي الخامس والأربعون في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، التاريخ من باب خضوعه لإجراءات العزل عن منصبه، على غرار ريتشارد نيكسون عام 1974، وبيل كلينتون عام 1998؛ وفي حين أن نيكسون قد تجنب هذا الموقف بتقديم استقالته في 9 أغسطس عام 1974، وأن كلينتون قد تمت تبرئته، فإن الرئيس الحالي دونالد ترامب ينكر الاتهامات الموجهة إليه، وفق وثيقة الاتهام التي أقرها الكونغرس، ويخوض معركة بقائه حتى اللحظة الأخيرة.

إجراءات عزل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجيء في مناخ مختلف تماماً، عن الظروف التي طبقت فيه إجراءات عزل نيكسون وكلينتون؛ فلم تكن قد وجدت بعد الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وكانت الوقائع حقيقية ولا علاقة لها بالوقائع الافتراضية؛ في الظروف الراهنة المناخ السائد في السياسة الأمريكية، يتميز بما يسميه بعض المحللين «القبلية الحزبية السياسية»، فالحزب الجمهوري يصطف وراء الرئيس «كقبيلة»، ولا يرى في الحزب الديمقراطي مجرد خصوم سياسيين، بل قبيلة معادية، بالإضافة إلى تحوّل الحزب الجمهوري منذ التسعينيات إلى حزب يميني متشدد أو «أصولي» بنظر المختصين.

وبناء على هذا الاستقطاب القبلي والحزبي، فإن الرئيس الأمريكي ومعاونيه وأعضاء الحزب الجمهوري يرون في إجراءات عزل الرئيس، نوعاً من المؤامرة والمكيدة وتصفية الحساب والانتقام، كما أن إجراءات العزل نابعة من «الدولة الأمريكية العميقة»، وبعض مؤسساتها كمكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية وبعض موظفي وزارة العدل الأمريكية، من ناحية أخرى فإن وثيقة العزل وموادها الصادرة عن الكونغرس الأمريكي بنظر الجمهوريين ودفاعهم القانوني تفتقد للأدلة القوية، كما أن معاوني الرئيس وكذلك الشهود لم يتم استدعاؤهم عن طريق المحكمة للإدلاء بشهاداتهم أمام الكونغرس، ولهذا فإن إجراءات عزل الرئيس لا تعدو أن تكون في نظر الرئيس الأمريكي سوى مجرد «مؤامرة من قبل أعضاء الحزب الديمقراطي وبعض البيروقراطيين الأمريكيين».

على النقيض من ذلك، فإن أعضاء الكونغرس من الديمقراطيين يرون أن «لا أحد فوق القانون» بمن فيهم الرئيس نفسه، وذلك فضلاً عن أن العديد من النواب الديمقراطيين الذين انتخبوا في عام 2018 يضعون حماية وتطبيق الدستور في مقدمة أولوياتهم على حساب المصالح الانتخابية.

يعلم الديمقراطيون أن إتمام محاكمة الرئيس وعزله يرتبط بمجلس الشيوخ، والذي تتوفر فيه الأغلبية للجمهوريين، ويحظى الرئيس بتأييد زعيم الأغلبية في المجلس ميتش ماكنويل ورئيس لجنة الشؤون القضائية، اللذين أعلنا نيتهما في التعاون مع البيت الأبيض لتبرئة الرئيس، وإذا كان ذلك كذلك، فإن الهدف من إجراءات العزل، ربما يتمثل في تقليل حظوظ ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وإعلام الرأي العام الأمريكي بهوية وطبيعة الانتهاكات، التي ارتكبها الرئيس المرشح حتي يكون علي بينة من الوقائع عندما يقرر التصويت في هذه الانتخابات.

ومع ذلك، فإن هذا العامل قد لا يمارس التأثير المطلوب في العملية الانتخابية، ذلك أن ثمة العديد من العوامل الأكثر تأثيراً في هذه الانتخابات مثل حالة الاقتصاد ونسبة المشاركة في التصويت من قبل الشباب والنساء والمستقلين وأفق المشروع السياسي للمرشحين، من ناحية أخرى فإن الناخبين قد ينسون هذه الواقعة في زخم المعركة الانتخابية، ويتذكرون لترامب قدرته على عقد الصفقات، كما فعل مع الصين عندما أعلن في مطلع العام الحالي قرب توقيع اتفاق تجاري جزئي يتضمن بنوداً تتعلق بالنقل القسري للتكنولوجيا، ويفتح المجال للقطاع المالي الأمريكي للوصول إلى السوق الصينية، وبموجب الاتفاق تستورد الصين سلعاً وبضائع أمريكية تقدر بــ 200 مليار دولار، وهي اتفاقيات مفيدة للمزارعين الأمريكيين والزراعة الأمريكية في ولايات الشمال والجنوب.

أما من الناحية السياسية، فإن إقدام «ترامب» على إصدار قرار قتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني في العراق، وكارثة الطائرة الأوكرانية بعد اعتراف إيران بإصابتها بصاروخ إيراني اعتقاداً أنها طائرة معادية ربما يصب في صالح الرئيس الأمريكي وإعادة انتخابه، رغم أنه من الصعب الجزم بأن دوافع هذا القرار اقتصرت على العملية الانتخابية وتعزيز مواقعه في المنافسة وحتى الآن يصعب الجزم بمآل عملية العزل التي يواجهها الرئيس الأمريكي، وما إذا كانت ستنتهي فعلاً إلى إعفائه من منصبه أم أنها ستقتصر على الجانب الدعائي والرمزي المرتبط بسياق الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة.. وإن غداً لناظره قريب.