بين حراك 25 يناير عام 2011 وثورة 30 يونيو عام 2013، علاقات وارتباطات لا تنفصم عراها، وليس بمقدور أحد الفصل بين هاتين الموجتين، ليس فحسب لأن الدستور قد تضمن الإشادة بهما، ولكن لأسباب أكثر تجذراً وعمقاً، فإذا كانت الموجة الأولى في 25 يناير قد طرحت وبقوة ضرورة التغيير والخروج من دائرة الركود والجمود، فإن الموجة الثانية في 30 يونيو عام 2013، قد صوّبت مسار هذا التغيير وأهدافه ووضعته في السياق الطبيعي والتاريخي المتوافق مع توق المصريين للتغيير، ومع ثقافتهم وهويتهم.
بين هاتين الموجتين قواسم مشتركة، أبرزها أن القوات المسلحة المصرية قد انحازت في كليهما لمطالب ملايين المصريين، الذين شاركوا فيهما، ورحب المواطنون بكل أطيافهم بدعم القوات المسلحة المصرية لمطالبهم؛ في الموجة الأولى في 25 يناير وما بعده انتشرت القوات المسلحة المصرية في مختلف ربوع البلاد، لتأمين المواطنين والمؤسسات والمنشآت والمقرات والمصالح، أما في الموجة الثانية للثورة في 30 يونيو فقد أيدت القوات المسلحة المصرية مطالب المواطنين المصريين واحتجاجاتهم، والتي لم يكن مقدراً لها أن تتمكن بمفردها من تصويب المسار وإسقاط حكم الإخوان، وتولت القوات المسلحة قيادة التغيير وبلورت مطالب الشعب.
لم يكن هذا الموقف غريباً أو جديداً لا على الشعب المصري ولا على القوات المسلحة المصرية؛ حيث تبادل الشعب والجيش المواقع في تاريخ مصر الحديث، مؤازرة وتأييداً وانحيازاً؛ ففي الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 أخذ الجيش المبادرة بالاستيلاء على السلطة وإنقاذ البلاد والعباد من ربقة الفساد وسوء توزيع الثروة، وقام الشعب بتأييد الجيش في حركته، والتي تحولت إلى ثورة رفعت مصر إلى مصاف القيادة في العالم الثالث وحركات التحرير من الاستعمار.
أما فيما يتعلق بالموجة الأولى في 25 يناير عام 2011، فينبغي التمييز وإلقاء الضوء على بعض النقاط التي تثير التباساً وجدلاً في المجتمع وبعض مؤسسات الدولة ربما على حد سواء، الأولى التي تتعلق بحدث 25 يناير ذاته، فهذا الحدث التاريخي لم يكن مفاجئاً ولا خارج دائرة التوقعات؛ بل كان له إرهاصات ومقدمات توالى حدوثها ووقعها خلال ما يقرب من العقد من الزمان، كان ثمة معارضة سياسية ومجتمعية وكان الاستياء معمماً، وشمل العديد من فئات المجتمع والنخبة الحزبية والفكرية والسياسية.
أما النقطة الثانية وهي الأهم والتي تثير الجدل والانقسام ما بين الاعتراف بـ 25 يناير كثورة وبين اعتبارها «مؤامرة» كلية على الوطن والدولة، فيجب القول إن بداية 25 يناير عام 2011 بالذات في الأيام الأولى التي امتدت من 25 إلى 27 يناير كانت مبادرة من قبل الشباب والمواطنين، الذين لم يكن لديهم نية الإضرار بالدولة أو تخريب مؤسساتها، بيد أن دخول جماعة الإخوان الإرهابية على الخط منذ 28 يناير عام 2011 قد فتح الباب أمام العنف المقصود والمتعمد لكسر الأمن والمؤسسة الأمنية والشرطية، ذلك أن الاقتحام المتزامن في توقيت واحد لما يفوق المائة من أقسام الشرطة وتخريبها والاستيلاء على السلاح الموجود بها، كان بلا شك مؤامرة دبرها «الإخوان» وحلفاؤهم من الجماعات الإرهابية المدربة والمؤهلة لممارسة العنف في الداخل والخارج، والحال أن عنصر المؤامرة في مسيرة 25 يناير لا يمكن استبعاده؛ ذلك أن حالات التغيير والانتقال والاضطرابات تتميز بالسيولة والقابلية للاختراق، وتمثل مساحة مفتوحة أمام مختلف الفاعلين الداخليين والخارجيين على مختلف الصعد الوطنية والإقليمية والدولية، خاصة عندما يكون المقصود هو دولة مثل مصر تمثل مركز الثقل الإقليمي والاستقرار في المنطقة بأكملها، بيد أن وجود عنصر المؤامرة في هذا الحدث التاريخي وتصويره على أنه مؤامرة من أولها إلى آخرها ينطوي على تشويه لأنه ينسب الحدث إلى فئة معينة هي «الإخوان المسلمون»، ويمنحهم قوة أسطورية لا يمتلكونها بكل المعايير، ومن ناحية أخرى ينكر الواقع الملموس المتمثل في احتشاد ملايين المصريين للاحتجاج والبحث عن الكرامة، والذين فاق حضورهم في ثورة 30 يونيو حضورهم في الخامس والعشرين من يناير، بعد أن تكشف لهم قفز «الإخوان» على الثورة وتوجيه مسارها لخدمة مصالحهم وطموحهم في السيطرة على حكم مصر.
واعتقادي أنه بافتراض أن موجة 25 يناير لم تفضي إلا إلى نتيجة واحدة ألا وهي تبديد وهم البديل «الإخواني الإسلامي» وإزاحته من مخيلة المصريين وكشف أبعاده الكارثية للعيان، لاستحق هذا الحدث الأهمية اللازمة والضرورية لإدماجه في نسيج التاريخ المصري الحديث والمعاصر، واعتباره حلقة أساسية في منظومة الاحتجاجات والثورات التي أبدعتها مخيلة المصريين وقدرتهم على تجاوز التحديات وصنع تاريخهم.
* كاتب ومحلل سياسي