أشهر قليلة تفصلنا عن بدء انتقال الحكومة المصرية إلى العاصمة الإدارية الجديدة في النصف الثاني من العام الحالي 2020 بشكل تدريجي، لتكتمل التجربة، ويتحول حلم إنشاء عاصمة جديدة لمصر إلى واقع حقيقي على الأرض.
البداية كانت حلماً لدى الرئيس عبد الفتاح السيسي، المعروف عنه دقته الشديدة في كل التفاصيل، وقدرته على تحويل الحلم إلى حقيقة، من خلال توفير كل عناصر النجاح إلى المشروعات العملاقة، ودراسة كل جوانبها باستفاضة، وتذليل كل العقبات التي يمكن أن تحول دون نجاحها.
الموقع تم اختياره بعناية قريبا من القاهرة، حيث يبعد نحو 20 دقيقة من مدينة نصر ومصر الجديدة، وتم إنشاء طريق جديد عملاق هو طريق محمد بن زايد، الذي يربط العاصمة الجديدة بالقاهرة والمدن الأخرى.
أما من ناحية التخطيط العمراني، فقد تم تخطيطها طبقًا لأحدث المواصفات العالمية على مساحة 170 ألف فدان، وهي تقريباً مساحة سنغافورة نفسها، وأربعة أضعاف مساحة العاصمة الأمريكية (واشنطن)، بما يجعلها مؤهلة وقادرة على استيعاب ما يقرب من 6 ملايين مواطن مصري بعد استكمال مراحلها المختلفة.
في الحي الحكومي تمت معالجة كل أخطاء تداخل الوزارات في المناطق السكنية، كما هو موجود الآن في القاهرة، حيث تم تخطيط الحي الحكومي بحيث يكون مقصورًا على الوزارات وجميع المؤسسات الحكومية والرئاسية والبرلمان، لتصبح جميعها في مكان واحد، بعيدًا عن الاشتباك مع المناطق السكنية، وما يترتب على ذلك من مشكلات مرورية وازدحام وتكدس تؤدي إلى زيادة معدلات التلوث وإهدار الوقت والطاقة.
المدينة أيضاً تم تعميمها، لتصبح أول مدينة ذكية عربية بالمفهوم الحديث، ولتكون قاطرة للتنمية العمرانية والاقتصادية والتكنولوجية في مصر والعالم العربي وإفريقيا.
الأمر المؤكد أن إنشاء عاصمة جديدة ليس حالة مصرية خاصة، حيث كانت هناك العديد من دول العالم قد لجأت إلى هذا الأسلوب في إنشاء عواصم جديدة بعد أن أصبح من المستحيل علاج عيوب ومشكلات العواصم القديمة في التكدس والازدحام والانفجار السكاني.
ربما تكون الحالة المصرية في إنشاء عاصمة جديدة أكثر إلحاحاً من الحالات السابقة نتيجة أسباب متعددة، منها ما يتعلق بحالة القاهرة التي تحولت إلى مدينة ديناصورية عملاقة، يزيد تعدادها على تعداد الكثير من دول العالم، بالإضافة إلى التكدس القاتل الذي يشهده الكثير من مناطقها نتيجة تداخل المباني الحكومية مع السكنية، بالإضافة إلى شيخوخة الكثير من مرافقها، وهو ما يصعب معه إمكان التوسعات المستقبلية.
من هنا كان قرار إنشاء العاصمة الجديدة، لحل كل هذه المشكلات الموروثة والمتراكمة، بالإضافة إلى مردودها الاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بإيجاد فرص عمل جديدة، بلغت ما يقرب من 250 ألف وظيفة عمل مباشرة، إلى جانب أضعاف هذا الرقم بشكل غير مباشر.
فقد وصل تعداد مصر إلى 100 مليون نسمة رسمياً، طبقاً لما أعلنه جهاز التعبئة العامة والإحصاء في بيانه، وهو ما يعني أن تعداد سكان مصر قد تضاعف 40 مرة تقريباً على مدى 200 عام، ومع ذلك فإن هؤلاء السكان ظلوا يعيشون تقريباً على المساحة نفسها التي كانوا يعيشون عليها منذ 200 عام، بزيادة طفيفة لم تزد على 2% تقريباً، أي أن عدد السكان تضاعف 40 مرة في حين أن مساحة الأرض زادت 2% فقط مما كانت عليه، وهي نسبة ضعيفة، ولا تقارن بالعدد الهائل من الزيادة السكانية التي حدثت خلال الفترة نفسها.
أعراض ذلك الخلل الرهيب ظهرت في تآكل الأراضي الزراعية، وتحويل أجود هذه الأراضي إلى كتل أسمنتية، ورويدًا رويدًا ظهرت المناطق العشوائية، وتمددت وحاصرت القاهرة من معظم جوانبها.
قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي باقتحام تلك المشكلة المؤجلة منذ عقود طويلة كان بهدف تنفيذ المخطط الإستراتيجي القومي للتنمية العمرانية، ومضاعفة مساحة المعمور، لكي تكون هناك فرصة حقيقية أمام التوسع الصناعي والزراعي والعمراني، لأنه باختصار لن تكون هناك قدرة حقيقية على أي توسعات في ظل التكدس العمراني والسكاني الحالي.
العاصمة الإدارية الجديدة هي القاطرة لهذا الحلم الضخم، الذي بدأ يتحقق من خلال إنشاء تلك المدن الجديدة الـ14، ولأول مرة ستكون هناك أكثر من عاصمة لمصر، فالعاصمة الجديدة ستكون عاصمة للإدارة والسياسة والأعمال، والقاهرة ستظل العاصمة الثقافية والتراثية والتاريخية لمصر، وهناك مشروعات ضخمة تتم فيها الآن، لإزالة العشوائيات والتشوهات منها.
فقد بدأت العاصمة الإدارية الجديدة تمارس مهامها حينما اصطحب الرئيس عبد الفتاح السيسي نظيره البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، منذ بضعة أيام، في جولة تفقدية هناك، شملت مدينة الثقافة والفنون ومنشآت المدينة الرياضية وكنيسة ميلاد السيد المسيح والحي الحكومي. كما تفقد المعرض المقام بمناسبة انعقاد مجلس الأعمال المصري - البيلاروسي في العاصمة الإدارية بفندق «الماسة كابيتال»، وبمشاركة الشركات المصرية والبيلاروسية.
أعتقد أن دخول العاصمة الإدارية الجديدة الخدمة سيسد جزءاً من احتياجات الكثافة السكانية المتزايدة، ويسهم، في الوقت نفسه، في توفــير المزيد من فرص العمل، في إطار تحسين مؤشرات الاقتصاد المصري، الذي أصبح واحداً من أقوى الاقتصادات الناشئة في المنطقة.
* رئيس مجلس إدارة «الأهرام»