يُعلن العديد من قيادات الحزب الديمقراطي في أمريكا دعمهم للمرشح الديمقراطي للرئاسة جو بايدن بحجة أنّه المؤهل لمنافسة دونالد ترامب في انتخابات نوفمبر المقبلة، وأنّ بايدن هو مرشح معتدل قادر على استقطاب غالبية الأمريكيين التي لا تؤيد التطرف نحو اليسار الذي يُمثّله الآن المرشح (الديمقراطي أيضاً) بيرني ساندرز، ولا تريد التجديد للرئيس ترامب بسبب سياساته المدعومة من اليمين المتطرف.

المجتمع الأمريكي يسير نحو التطرف لأسباب تزداد فعاليتها في هذا القرن الجديد، وسيقابل التطرف اليميني الذي تعيشه الولايات المتحدة بتطرفٍ نحو اليسار لدى المعارضين له.

فالولايات المتحدة نشأت تاريخياً على أيدي أوروبيين بيض «أنجلو سكسون» بروتستانت مارسوا العنف والقتل ضد أصحاب الأرض الشرعيين الذين اُصطلح على تسميتهم «الهنود الحمر»، ثمّ استحضر المهاجرون الأوروبيون أعداداً كبيرةً من الأفريقيين واستعبدوهم لقرونٍ طويلة، وهم الذين ثاروا على التاج البريطاني بقوة السلاح ليقيموا دولتهم الخاصة التي تألّفت بداية من ثلاث عشرة ولاية كانت أصلاً مستعمرات بريطانية على الساحل الشرقي لأمريكا.

ورغم القيمة العظيمة للدستور الأمريكي الذي جرى إقراره في عام 1789، فإنّ التمييز الديني والعرقي استمر في الولايات المتحدة حتى أواخر القرن العشرين، وشهدت طوائف مسيحية كاثوليكية ممارسات عنف وقتل ضد أتباعها من المهاجرين الجدد لأمريكا إلى حين مطلع القرن الماضي، كما استمر التمييز العرقي ضد الأمريكيين الأفارقة في مختلف مجالات الحياة والعمل حتى حقبة الستينيات حيث جرى إقرار قوانين تمنع حالات التمييز ضدهم.

وقد فشل القس جيسي جاكسون في القرن الماضي بالحصول على دعم الحزب الديمقراطي له بالترشّح لانتخابات الرئاسة لأنّه أمريكي أسود، رغم موقعه الديني المسيحي وجذور عائلته العميقة في أمريكا.

أيضاً، فشل المرشّح الديمقراطي للرئاسة عام 1988 مايكل دوكاكس أمام منافسه جورج بوش الأب، بسبب عدم ثقة قطاعٍ كبير من الأمريكيين بـ«وطنيته» الأمريكية لأنّه ابن مهاجر يوناني حديث، وأنّ عائلته لم تتأصّل في التاريخ الأمريكي، ولم تنحدر من «الأنجلوسكسون» الأبيض المسيحي البروتستانتي! وكان جون كنيدي أوّل رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة الأمريكية (1961-1963)، ولم يأتِ بعده كاثوليكيٌّ آخر للرئاسة الأمريكية!

لذلك كان وصول باراك حسين أوباما، الأمريكي الأفريقي، ابن المهاجر المسلم، للرئاسة الأمريكية صدمة كبيرة لمن هم يمكن وصفهم بالأصوليين الأمريكيين والذين كانت ردود أفعالهم مساوية في قوتها لفعل انتخاب أوباما من قبل غالبية تشكّلت من مزيج ضمّ يساريين بيضاً معظمهم من الشباب والمثقفين والفنانين، وأصوات معظم الأمريكيين الأفارقة، وكتل شعبية ضخمة من المهاجرين الجدد من أمريكا اللاتينية وآسيا والشرق الأوسط. ولذلك أيضاً، كان فوز دونالد ترامب صدمة معاكسة للصدمة التي جرت حين فاز أوباما.

«الأصوليون الأمريكيون» الذين كانوا يستعبدون أصحاب البشرة السوداء وجدوا أنفسهم تحت قيادة أوباما لأكبر دولة في العالم، و«الأصوليون الأمريكيون» تنتشر وسطهم جماعات دينية محافظة وبعضها لديه عنصرية دينية ضد أي دين أو مذهب مسيحي آخر، بينما الهجرة لأمريكا من دول العالم الإسلامي كانت تزداد بشكل واسع خلال العقود الماضية إضافة إلى أنّ غالبية المهاجرين من أمريكا اللاتينية هم من أتباع المذهب الكاثوليكي.

التطرف هو الذي يسود الآن في المجتمع الأمريكي ولن يتراجع في القريب العاجل، بل ربما سيزداد قوة خلال الانتخابات القادمة وبعدها، عِلماً أنّ التطرف يؤدي أيضاً إلى استخدام العنف المسلّح كالذي جرى من حوادث إرهابية محلية في عدة ولايات ضد أقليات دينية وعرقية وإثنية.

فحق اقتناء السلاح في أمريكا أمر لا رجعة عنه وقد ارتفعت نسبة شرائه في السنوات الماضية ما ينذر بممارسات عُنفية أكثر في المرحلة القادمة.

وما شهدته الولايات المتحدة من «انتخابات نصفية» لأعضاء الكونغرس في عام 2018، وفوز الديمقراطيين بغالبية مجلس النواب، هي كانت مؤشرات إلى المتغيّرات المهمّة الحاصلة في المجتمع الأمريكي.

فقد اشترك الحزبان الديمقراطي والجمهوري في خروج القاعدة الشعبية لدى كلٍّ منهما عن رغبات القيادات التقليدية، أيضاً، يحصل الآن أمرٌ لافت للانتباه في عدّة ولاياتٍ أمريكية خلال الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي، حيث يصوّت العديد من الأمريكيين المسلمين والعرب لصالح المرشح اليهودي بيرني ساندرز.

وذلك شهادةً للطرفين معاً: شهادة للأمريكيين المسلمين والعرب بأنّهم لا ينطلقون من اعتبارات دينية أو عرقية في اختيارهم للمرشّحين، بل من معايير سياسية داخلية وخارجية لتحديد أين سيذهب صوتهم الانتخابي.