استطاعت فيروسة صغيرة لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة أن تُغيّر وجه العالم كلّه في أسابيع قليلة. فيروسة كورونا جعلت مليارات من الناس يخضعون للإقامة الجبرية في منازلهم معظم الأوقات وأجبرت أيضاً دولاً وقوى عظمى على الانطواء على ذاتها وعلى تغيير نمط الحياة فيها رأساً على عقب، ولم تنفع خزائن أسلحة الدمار الشامل التي تملكها في مواجهة أخطار هذا الفيروس المنتشر عالمياً خلال هذه الفترة.

أولويات الحكومات والشعوب على امتداد القارات كلّها تغيّرت الآن، وإلى مدى زمني غير معروف، بانتظار الترياق من هذه الجهة أو تلك. وما ظهر من نتائج سلبية اقتصادية عالمية هو رأس جبل الجليد حتى الآن، حيث الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، فإلى أين ذاهب عالم اليوم؟ وكيف يمكن التعامل الفردي والجماعي مع هذا الوباء المجهول أصله وفصله؟

طبيب أمريكي أعطى مثالاً جيداً عن واقع حال العاملين حالياً في المؤسسات الطبية والصحية، فقد وصفهم بأنهم يحسنون التحكم بقيادة السفينة خلال العواصف، لكنهم لا يقدرون على التحكم في سرعة الريح وحركة الأمواج، وها هو وباء كورونا أشبه بالأمواج العاتية التي تُهدّد السفينة ومن عليها.

إذن، هي مرحلة زمنية صعبة تعيشها البشرية الآن، وقد شهد العالم حالات كثيرة مشابهة لها في السابق وربما أشدّ خطورة منها كما حصل منذ مائة عام مع ظهور وباء الأنفلونزا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة، الفارق المهم في عصرنا الحاضر هو تطور العلم والأبحاث ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي تتيح جميعها إمكانات كبيرة لاكتشاف اللقاح المناسب من أجل وقف انتشار الوباء ولعلاج المصابين به وتسهيل إيصال الإرشادات المناسبة لعموم الناس، وهي أمور لم تكن متوفرة كلّها في حالات الأوبئة السابقة.

الأمر الآخر المهم التوقف عنده هو عدم حتمية الوفاة لمن يصيبهم هذا الوباء، وأنّ ما يحصل من علاجات فورية الآن قد أدّى إلى شفاء العديد ممن تعرضوا للإصابة به، فتبعاً للموقع الإلكتروني الخاص بجامعة جون هابكنز، والذي ينشر إحصاءات رسمية يومية بعدد المصابين بالعالم، وبمن جرى النجاح في علاجهم في مختلف البلدان، فإنّ الأرقام هي حتى تاريخ كتابة هذا المقال: حوالي 182 ألف مصاب بالوباء توفي منهم حوالي 7 آلاف وشُفي من الوباء حوالي 80 ألفاً، والعدد الباقي ما زال قيد العلاج.

نعم، من حق كل إنسان في أي مكان بالعالم اليوم أن يخاف هذا الوباء المجهول الذي دخل الأوطان خلسة ولم يطرق أبوابها، لكن رغم الجهل بمصدره الحقيقي وبكيفية علاجه فهو أقلّ خطراً حتى الآن من وباء الأنفلونزا الذي تعايش العالم معه على مدار عقود طويلة وما زال.

وسيكون من السليم طبعاً اتباع الإرشادات الصحية والاجتماعية كلّها التي صدرت عن المؤسسات الصحية وعن الحكومات، لكن ما هو غير صحي وغير سليم الوقوع في حالة الهلع والفزع، لأن ذلك لن يقدم أو يؤخر شيئاً بالنسبة للوباء ولمواجهته، بل سيزيد من ضعف المناعة في أجسام الناس ويجعلها أكثر قابلية للإصابة بالوباء.

وصحيح أنّ هذا الوباء هو عدو للإنسانية وللحياة، ويجب مقاومته بسيف العلاج واللقاح المنشود الوصول إليه، لكن الدرع التي تحمي صدور الناس الآن تتوقف عليهم وعلى مقدار تعزيز قوة المناعة في أجسادهم وعلى مدى التزامهم بإرشادات الصحة والنظافة في سلوكهم اليومي مع أنفسهم ومع الآخرين.

وصحيح أنّ بلدان العالم تقفل على نفسها الآن وتمنع السفر منها وإليها، وهذا يعني عزلة لشعوب العالم وأوطانه، وإسقاطاً اضطرارياً لعصر «العولمة» الذي عاشه الناس في العقود الثلاثة الماضية، لكن أيضاً هناك «عولمة صحية» تحصل الآن، فهناك وحدة حال أنشأتها فيروسة كورونا بين الناس على هذه الأرض، وهناك همّ واحد مشترك أصبح يجمع الشرق مع الغرب، والشمال مع الجنوب، والفقير مع الغني، والمهمّش مع المشهور والمعروف، والحاكم مع المعارض له، وهي حالة نادرة الحصول عادة في تاريخ الصراع بين الأمم وداخلها.

فعسى أن يكون فيروس كورونا منبهاً لمخاطر استمرار سياسات ولّدت حروباً قُتل أو يقتل فيها عشرات الألوف من الأبرياء في العالم ولم يهتم حتى الإعلام بهم أحياناً.

ربما أرادت فيروسة كورونا الصغيرة أن تستبق حرباً عالمية بين الكبار لتظهر لهم كم هم عاجزون أمامها رغم ما هم عليه من قوة وجبروت، وأنّ أولى بهم العمل لنهضة شعوب العالم وخدمة الناس لا التنافس على القتل والاستمرار في سباق التسلّح.