ربما تكون هناك علاقة قوية بين المبادرة الرئاسية، التي يجري الإعداد لها الآن، لتشجيع المنتج المحلي وتخفيض الأسعار، وبين الإعداد للموازنة الجديدة (2020 ـ 2021)، وتحولها من الإصلاح المالي إلى الإصلاح الهيكلي.
المبادرة الرئاسية الجديدة، التي من المقرر أن يطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال المرحلة المقبلة، تعكف الحكومة، على دراستها الآن، بهدف دعم المنتج المحلي، وتحريك السوق والمبيعات، بما يسهم في تشجيع الصناعة الوطنية والارتقاء بها ودعمها، بدءاً من قاعدة البيانات الخاصة بقائمة المنتجات والسلع التي ستشارك في هذه المبادرة، مروراً بالحملة التسويقية وخطط المتابعة الميدانية، وانتهاء بآليات التمويل المتاحة وغيرها من الإجراءات.
المبادرة كلها تصب في خانة دعم الصناعة الوطنية التي تحتاج إلى دفعة قوية خلال المرحلة المقبلة، بعد أن تجاوزت مصر مرحلة الإصلاح المالي، لتبدأ مرحلة الإصلاح الهيكلي.
الحديث عن دعم الصناعة وتطويرها وتحفيزها يدخل ضمن الإصلاح الهيكلي، لأن الصناعة أحد الأجنحة المهمة لهذا الإصلاح المقبل، بما يضمن تحويل مسار الاقتصاد المصري من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي، ليصبح أكثر قدرة على مواجهة العواصف والتقلبات التي تجتاح العالم بين آونة وأخرى.
ميزة الاقتصاد الإنتاجي أنه أكثر صموداً في مواجهة تلك الأنواء، ولا يتأثر بسرعة كما يحدث في الاقتصاد الريعي، مثلما يحدث حالياً في أزمة فيروس «كورونا» الذي يجتاح العالم، وأدى إلى وقف معظم رحلات السياحة والسفر بين الكثير من بلدان العالم، وتقليل حركة الواردات والصادرات بشكل مفاجئ وغير متوقع.
المبادرة الرئاسية جاءت في توقيت متزامن في وقت يتم التجهيز فيه للموازنة الجديدة لتتكامل معها في إطار رؤية قائمة على طرح العديد من البرامج والمبادرات والحوافز الداعمة للإصلاح الهيكلي.
ما تحقق من نجاحات اقتصادية خلال الفترة الماضية، التي أعقبت إطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي، كان ضرورة قبل الحديث عن الإصلاحات الهيكلية، ولأول مرة خلال العام الماضي يتم تدبير المصروفات من الإيرادات الفعلية للدولة، وسجلت مصر المركز الثاني عالمياً، بعد الإكوادور، في الفائض الأولي بنسبة %2.
كما احتلت مصر المركز السادس عالمياً في نسبة النمو بمعدل %5.6. وفي مجال خفض الدين، نجحت مصر في خفض معدل الدين من %108 من إجمالي الناتج المحلي إلى %90 خلال عامين فقط، أي أنه تم تخفيض معدل الدين إلى إجمالي الناتج المحلي بنحو %18، لتحتل مصر المركز الأول في هذا المجال عالمياً، والموازنة الجديدة تستهدف وصول خفض معدل الدين إلى %79 من إجمالي الناتج المحلي، لكن ربما يقلل من هذه التوقعات أزمة فيروس «كورونا» وتبعاته وتحدياته والمدة الزمنية التي يخيم فيها بآثاره السلبية على الاقتصاد العالمي، وكلما كانت المدة أقل كان التأثير محدوداً، وتستطيع الموازنة مواجهته بسهولة، وهو ما نتمناه حتى لا تحدث تأثيرات سلبية خارج التوقعات.
هذه التطورات الإيجابية للاقتصاد المصري هي التي ساعدت الحكومة في إعداد الموازنة الجديدة، لتركز على الإصلاح الهيكلي للاقتصاد المصري، من خلال برنامج واضح، ومبادرات محددة تستهدف تحفيز القطاع الصناعي، من أجل خلق فرص عمل جديدة، واستدامة تحسن هيكل النمو، ورفع معدلاته، في إطار إطلاق حزمة من الحوافز، لتشجيع دعم الصناعة الوطنية، وتعظيم القدرات المحلية الإنتاجية.
هذه المبادرات والحوافز ستسهم في تنشيط الصناعة وزيادة معدلات الصادرات غير النفطية خلال الفترة المقبلة.
ويدخل ضمن هذه الحوافز والمبادرات الدفع بعدة تشريعات جديدة تتعلق بالشراكة مع القطاع الخاص، والجمارك، والضرائب، والحسابات الختامية، والمعاملة الجمركية والضريبية للكثير من الصناعات المحلية مثل صناعة الورق كنموذج يستفيد من هذه الإجراءات.
وقد بدأت مصر برنامجاً طموحاً للإصلاح الاقتصادي منذ ما يقرب من 4 سنوات، وبالتحديد في نوفمبر 2016، ووقتها كان الاقتصاد المصري على شفا الإفلاس، بعدما شهدته البلاد من فوضى وانفلات وتوقف عجلة الإنتاج عقب 25 يناير 2011.
لولا هذا البرنامج الطموح والقاسي لكان مصير الاقتصاد المصري مشابهاً لمصير الاقتصاد اللبناني الآن، الذي عجز عن الوفاء بالتزاماته في سداد الأقساط السنوية المقررة للديون.
الآن تغيرت الصورة، وأصبح الاقتصاد المصري قادراً على الوفاء بجميع التزاماته الخارجية والداخلية، بل إنه أصبح يملك أكبر احتياطي نقدي في تاريخه، بعد أن زاد على 45 مليار دولار، ليتجاوز حاجز الأمان العالمي، لأنه يفي باحتياجات واردات مصر 9 أشهر، في حين أن معدل الأمان العالمي يكتفي بـ6 أشهر فقط.
ليس هذا فقط بل انعكس نجاح الإصلاح الاقتصادي على بدء تعافي الجنيه المصري، واستعادته نسبة كبيرة مما فقده أمام الدولار خلال فترة ما قبل الإصلاح الاقتصادي، هذا النجاح يجعل من مواجهة تحدي التحول إلى الإصلاح الهيكلي للاقتصاد المصري ضرورة ملحة، والبداية تكمن في رفع كفاءة الكوادر البشرية، وتوفير المناخ التشريعي اللازم لنجاح الإصلاح الهيكلي، من خلال تعزيز المخصصات المالية للصحة والتعليم والتدريب.