منذ الأحداث الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وكثير من المراقبين يكررون قضية تراجع الدبلوماسية الأمريكية، بل وعسكرة السياسة الخارجية الأمريكية.
ففي كتاب نشر في 2018 بعنوان «الحرب على السلام: نهاية الدبلوماسية وانحدار النفوذ الأمريكي» يتحدث الكاتب، رونان فارو، والذي عمل مع وزارة الخارجية والكونغرس الأمريكيين، في مراجعة نشرت حول الكتاب، عن عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية. ويكشف الكتاب عن الأدوار التي يلعبها عملاء السي آي إيه، والضباط العسكريون بدلاً من الدبلوماسيين كما كان يحصل في السابق.
ومؤخراً (2019) نشر سفير أمريكي سابق، ديفيد دنفورد، كتاباً بعنوان «من السادات إلى صدام: انحدار الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط»، والكاتب دبلوماسي متمرس خدم في دول عدة.
وقد بدأ عمله الدبلوماسي في أمريكا اللاتينية وأوروبا، ثم انتقل إلى العالم العربي العام 1981 حين عين رئيساً للقسم الاقتصادي في السفارة الأمريكية في القاهرة، ومن ثم اشتغل في المملكة العربية السعودية نائباً لرئيس البعثة، وأخيراً عين سفيراً في مسقط، وبعدها تقاعد من العمل الدبلوماسي في العام 1995.
ويرى الكاتب أن انحدار الدبلوماسية الأمريكية يعود إلى صعود دولة الأمن القومي عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية. ويقول الكاتب إن «جيلاً جديداً من مطبقي القوانين وعناصر الاستخبارات»، والذين لم يكن لهم تجربة أو احترام للعمل الدبلوماسي تسيدوا منظماتهم، وأن الأدهى والأمر أن أصبحت دولة الأمن الوطني والمراقبة تجرم العمل الدبلوماسي المعتاد.
وأكثر ما يزعج السفير دنفورد أن تفرد الولايات المتحدة بالقوة الهائلة لم يجعلها تحقق كثيراً من الإنجازات الدبلوماسية، وأنه كتب هذا الكتاب من تجربته الشخصية لشرح إخفاق الولايات المتحدة في تحقيق نجاحات دبلوماسية.
ويضيف الكاتب: إن الغرض في تأليف هذا الكتاب يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسة: أولاً، توضيح أن العمل الدبلوماسي هو مهنة فريدة، ثانياً، ما المقصود من انحدار الدبلوماسية بالنسبة للدبلوماسي، ثالثاً، تعليم الشباب الراغبين في مهنة العمل الدبلوماسي ما هي الدبلوماسية، وماذا يعني أن تمتهن الدبلوماسية.
وقد استهل دنفورد عمله في العالم العربي بالسفارة الأمريكية في القاهرة. وبعيد شهور قليلة واجهت السفارة أزمة تتعلق باغتيال الرئيس المصري أنور السادات في عرض عسكري احتفالاً بحرب أكتوبر. وكان تخوف السفارة، حسب ما يقول الكاتب أن الاغتيال كان مقدمة لانقلاب عسكري ضد نظام الحكم في مصر. ومن المفارقة الطريفة، يقول الكاتب، إن مبلغ حد الأزمة كانت ترتيب استقبال وفد أمريكي رفيع المستوى لحضور جنازة الرئيس الراحل.
ولم يكن آخر تعامل دنفورد مع مصر عند انتهاء مهمته في مصر في 1984، فقد عين دنفورد رئيساً للشؤون المصرية في الخارجية الأمريكية. ويقول: بعد تعيينه واجه أزمة اختطاف السفينة السياحية في العام 1985 أكيلو لورو من الإسكندرية من قبل جماعة فلسطينية متطرفة. وقد اغتيل شيخ عجوز أمريكي يهودي مقعد، وألقي بجثمانه في البحر.
وقد نجحت الولايات المتحدة في اختطاف طائرة كانت تقل الخاطفين، بعد أن أطلقوا سراح الرهائن على متن السفينة.
ويعطي السفير سياقاً عاماً لعملية الاختطاف حيث يقول: إن العنف الذي يسود سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مرده احتلال إسرائيل للأراضي العربية وغزو لبنان، وإن اللوبي المساند لإسرائيل كان حينها في أوجه ولم تستطع إدارة الرئيس رونالد ريغان أن تصل إلى هذا الاستنتاج في مسألة ظاهرة العنف والإرهاب، ولكن المنصب الأهم كان في الرياض حين تولى منصب نائب البعثة الدبلوماسية، وبسبب غياب السفير أصبح دنفورد القائم بالأعمال في واحدة من أكبر سفارات أمريكا قاطبة، وحدث أن عين سفيراً جديداً بعد فترة وهو الدبلوماسي المخضرم شاس فريمن.
وحصلت أزمة الكويت وقد تنبأ فريمان بالغزو إلا أن مساعديه ظنوا أن صدام مجرد مخادع لزيادة الضغط على الكويت، وإجبار الأخير للإذعان لشروط صدام، وحصل ما حصل.
ويقول الكاتب: إن وزير الخارجية حينها، جيمس بيكر، قام بخطوتين أدتا إلى تقليص دور الدبلوماسيين أثناء الأزمة. الأولى أن تخلص من الدبلوماسيين في دائرة الشرق الأدنى، لأنها مليئة بالمستعربين المتعاطفين مع العرب وغير متعاطفين مع إسرائيل؛ والخطوة الثانية أن أبقى الوزير بيكر القرار في دائرته الضيقة وبعيدة عن الدبلوماسيين في الخارجية.
هذه حكاية الدبلوماسية الأمريكية كما يرويها أحد أبنائها المهنيين.