الموقف المتشنج الذي تبنته إدارة الرئيس التركي رجب أردوغان تجاه الخطوة التي اتخذها المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي بإعلانه قبول التفويض الذي منحه الشعب الليبي للقيادة العامة للقوات المسلحة لإسقاط الاتفاق السياسي الموقّع في الصخيرات بالمغرب عام 2015 وتفويضه إدارة حكم البلاد، جاء كاشفاً عن عمق المأزق التركي في ليبيا، وخوف أنقرة من تأثير هذه الخطوة على مخططاتها في ليبيا، ولاسيما سعيها لإعادة إنتاج النموذج القبرصي في هذا البلد العربي بالتعاون مع الميليشيات الإخوانية الحليفة لها.

هذا الموقف التركي ليس جديداً، فمع كل تطور تشعر فيه أنقره أنها تفقد هي أو حلفاؤها الإخوان المتأسلمين، مناطق نفوذ متوهمة لها أو أراضي خاضعة لسيطرتهم، تسارع أنقرة بالصراخ والتنديد وتوجيه الاتهامات التي لا تغير من الواقع شيئاً.

حدث ذلك في مصر عندما تدخل الجيش المصري لإنفاذ الإرادة الشعبية بإسقاط حكم الإخوان عقب ثورة الثلاثين من يونيو 2013. وحدث أيضاً في سوريا، مع كل انتصار تحققه قوات الجيش السوري على الميليشيات المدعومة من تركيا، ومع استعادة كل مدينة من قبضة هذه الميليشيات.

خطوة المشير خليفة حفتر تبدو مفهومة ومبررة تماماً، ولاسيما بعد ما كشفت مواقف أنقرة والميليشيات الموالية لها المنضوية تحت حكومة الوفاق الوطني، عدم اهتمامها بتحقيق السلام المنشود عبر مسار مؤتمر برلين ووفق المقررات الدولية التي أقرتها الأمم المتحدة وبإشرافها، بل كشفت هذه الميليشيات بصورة أو بأخرى عن مخططاتها باستمرار سيطرتها على العاصمة طرابلس وسعيها لاستعادة المناطق الغربية دون باقي المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني الليبي، وهو ما يعني سعيها لتقسيم ليبيا عملياً بدعم من أنقرة.

إن مخططات تقسيم ليبيا ليست بعيدة عن الفكر التركي والإخواني، فتكرار نموذج التدخل التركي في قبرص عام 1974 والذي أفضى إلى إنشاء جمهورية قبرص التركية، ربما يراود أذهان المسؤولين الأتراك إذا فشلوا في السيطرة على كامل ليبيا، بحيث يصبح لدينا ليبيا التركية الخاضعة لحكم ميليشيات الإخوان، وليبيا العربية التي تخضع لسيطرة الجيش الوطني الليبي.

وهذا يفسر لماذا تعمل أنقرة والميليشيات الحليفة لها على إفشال أي جهد لتحقيق سلام لا يضمن لحلفائها الهيمنة على مقاليد الحكم، ولماذا تواصل دعمها العسكري للميليشيات بالرغم من كل القرارات الدولية التي تجرم ذلك.

وهناك العديد من المؤشرات التي ظهرت مؤخراً والتي تؤكد عدم حرص هذه الميليشيات وداعميها الأتراك على تحقيق السلام، من ذلك رفض حكومة الوفاق الهدنة التي أعلنها الجيش الوطني الليبي لوقف إطلاق النار بمناسبة شهر رمضان الكريم، ومواصلة أنقرة تقديم الدعم للميليشيات الموالية لها عبر نقل المقاتلين الأجانب من تشكيلات مسلحة مدرجة على قوائم الإرهاب إلى الأراضي الليبية، فضلاً عن تهريب الأسلحة الثقيلة والخفيفة لها في خرق صريح لقرارات الأمم المتحدة ومؤتمر برلين، حيث أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان، الأسبوع الماضي، أن المخابرات التركية ضغطت على مختلف الفصائل السورية الموالية لها لتوفير المزيد من المقاتلين لإرسالهم إلى ليبيا، فيما أشارت مصادر أخرى إلى تجهيز هذه الفصائل قوائم بأكثر من ألفي مقاتل تمهيداً لإرسالهم إلى الأراضي الليبية، رغم المشاكل التي تواجهها أنقرة في دفع رواتب هذه الميليشيات هناك، وما يثار من حديث عن وجود تذمر في صفوفهم بسبب تعطل الإنفاق التركي وتأخر صرف الرواتب.

إن المبرر الرئيسي الذي تتذرع به تركيا في مواصلتها إرسال الأسلحة والمقاتلين المتطرفين إلى ليبيا هو أنها تدعم الحكومة الشرعية التي أتى بها اتفاق الصخيرات، لذا جاء إعلان حفتر إسقاط هذا الاتفاق بتفويض شعبي، حتى يُسقط المبرر الذي يتذرع به الأتراك في انتهاكهم للسيادة الليبية والسعي إلى تنفيذ مخططاتهم في هذا البلد العربي الذي يئن تحت وطأة الصراعات منذ ما يقرب من عقد دون أي ضوء يلوح في الأفق بانتهاء هذه المأساة.

.