تزخر الحياة بتحديات كثيرة تواجه الإنسان في مسيرته على هذه الأرض، تارة على مستوى الفرد، وتارة على مستوى الأسرة، وتارة على مستوى المجتمعات والأوطان، وتارة على مستوى العالم بأسره، قال الله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}، أي: خُلق الإنسان في هذه الحياة يكابد ويواجه الشدائد والتحديات، وقد أمده الله تعالى بالإمكانات والوسائل التي تعينه على التغلب عليها، فعليه اغتنام ذلك في تحقيق سعادته وسروره وتذليل سبل الراحة له ولبني جنسه.

إن هذه التحديات التي تواجه الإنسان في مسيرته الحياتية هي في الحقيقة فرص يرتقي بها، فمن خلالها يكتسب خصالاً وشمائل، ويطوّر مهارات، ويكتسب خبرات، ويطل على نوافذ معرفية جديدة، ينطلق منها إلى تحقيق مزيد من الإنجازات في شتى المجالات، ولذلك قال العلماء:

«المحن من أبواب المنح»، وقال بعضهم: سبحان مَنْ إذا لَطَفَ بعبده في المِحَن قَلَبَها مِنَحاً، ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر تحويل المحن إلى منح والتحديات إلى فرص.

وها هي البشرية جمعاء كما هو معلوم تواجه تحدياً كبيراً في هذه الفترة، وهو فيروس «كورونا» المستجد، الذي اجتاح العالم من مشرقه إلى مغربه حاملاً معه وباء خطيراً يهدد الصحة العالمية، في تحدٍّ غير مسبوق، والعقلاء في العالم يحوّلون هذا التحدي إلى فرص يستفيدون منها لحاضرهم ومستقبلهم.

ومن مظاهر تحويل التحدي إلى فرصة في أزمة «كورونا» الاستفادة منها في قياس الأنظمة الصحية المحلية والعالمية، وتطويرها، وخاصة فيما يتعلق بالأوبئة، وتعزيز الجانب الوقائي، وتغذية الثقافة الصحية المجتمعية، وتطوير الصناعات الدوائية.

كما أن هذه الأزمة سلطت الضوء على الأهمية الكبرى للقطاع الصحي الذي يقف جنباً إلى جنب مع القطاعات العسكرية والشرطية وغيرها في تأمين المجتمعات من الجوائح والكوارث، ومن أخطرها الحروب البيولوجية التي لا تقف حدودها على ما قد يفتعله البشر.

فالذين يفكرون مجرد تفكير في شن هذه الحروب يورطون أنفسهم قبل غيرهم، وإنما يتجاوز ذلك إلى الهجمات البيولوجية التي تأتي من قلب الطبيعة بسبب الفيروسات وغيرها، والعالم اليوم أكثر إدراكاً لهذا الخطر، وأكثر وعياً بضرورة تطوير النظم الصحية، وتلبيتها للتحديات الراهنة والمستقبلية.

ومن مظاهر تحويل هذه الأزمة إلى فرص تعزيز التضامن العالمي في مواجهة الأوبئة والأخطار، فكم هو ضروري أن تتحلى كل دولة بهذه الروح التضامنية، ويتجلى ذلك بتبادل المعلومات بشفافية، والكشف المبكر عن الأخطار، وتبليغ الآخرين بها لتفاديها، ومشاركتهم وسائل الوقاية والعلاج، وألا تكون المصالح الخاصة حائلة دون ذلك.

وقد كشفت هذه الأزمة عن أن العالم اليوم يعاني خللاً كبيراً في هذا الجانب، بسبب الصراعات السياسية والاقتصادية التي تجعل كل طرف يتربص بالآخر، ويستغل أي فرصة للإضرار به، ما يعرقل مسيرة التضامن العالمي المنشود في مواجهة الأخطار المشتركة.

وفي هذا المضمار برزت دولة الإمارات كنموذج ملهم للعالم أجمع في تضامنها الإنساني مع شتى الدول، وجهودها الحثيثة في رفع المعاناة عن البشر أينما كانوا، عبر تواصلها المستمر ومساعداتها المتنوعة، وهو ما يعكس القيم الوطنية التي غرسها زايد الخير ورعاها قادة الإمارات واستظل بها الشعب الإماراتي الأصيل؛ قيم الخير والعطاء وحب الخير للجميع.

كما كانت هذه الأزمة فرصة للحكومات ومختلف الجهات للعناية بالتحول الرقمي، وتسريع عجلة تطويره، وتعزيز التكنولوجيا والابتكار، ودعم القطاعات التي تخدم ذلك.

وكذلك يأتي تحويل هذا التحدي إلى فرص على مستوى الأسر والأفراد، بالارتقاء بأنفسهم، وقياس متانة علاقاتهم، ومدى تحليهم بثقافة الانضباط والمسؤولية والصبر والأمل، ومدى استفادتهم من هذه الأزمة في تطوير مهاراتهم وخبراتهم.

ومن أهم ما في هذا التحدي من رقي تعزيز صلتنا بالخالق سبحانه، فهو سبحانه خير حافظ ومعين، والمتمعن في هذه الأزمة وغيرها يجد عظمة لطف الله تعالى بعباده، فكم يواجه الإنسان من تهديدات أرضية وفضائية، فيحفظه الله تعالى منها، ولا تقتصر ترجمة هذه الصلة على ما في القلوب فقط، بل تنعكس على الواقع العملي بأداء حقوق الله تعالى وإحسان العمل والمحافظة على ثروات الأرض واستثمارها والسعي في خير البشرية، فأحب الناس إلى الله أنفعهم للناس.

* رئيس مركز جلفار للدراسات والبحوث