الإمارات، كباقي دول العالم، تأثرت بجائحة «كوفيد 19» وفقدت ضحايا في حربها ضد الفيروس القاتل، وإن كان بدرجة أقل كثيراً من غيرها. وكشفت مواجهة هذا الوباء العنيد عن مدى تطور الدولة ومؤسساتها وصمودها أمام هذه الأزمة. وكما تكشف الشدائد والمحن معدن الرجال فإن الأزمات تظهر صلابة الدول ومؤسساتها.
عند اندلاع الجائحة كانت الإمارات قاب قوسين أو أدنى من بؤرة تفشي الوباء في إيران، وكان على الإمارات أن تتصرف بسرعة وحسم. وباشرت الدولة بغلق المرافق العامة بما فيها دور العبادة. كما منعت التجمعات مثل الزواج ومجالس العزاء. قرارات كهذه ليست سهلة على أي حكومة أن تتخذها لأسباب دينية واجتماعية واقتصادية.
والتحدي الكبير تمثل في كيفية استمرار النشاطات الضرورية للمجتمع مع الحفاظ على التباعد الاجتماعي لمنع تفشي الوباء. وكما رأينا فإن الحكومة قامت ببرنامج وطني للتعقيم وحددت ساعات لمنع التجوال حفاظاً على عملية التعقيم.
وأقامت الجهات الصحية مراكز فحوص للأفراد ليتسنى معرفة المصابين وعزلهم عن الأصحاء لمنع انتشار العدوى. إضافة إلى ذلك، فإن مختبرات البحوث في الدولة سارعت لإيجاد العلاج للمرض، ونجحت في تجارب مخبرية لمركز الخلايا الجذعية لإيجاد علاج لعوارض مرض «كوفيد 19». وقد نجح العلاج في الحصول على براءة الاختراع لتخفيض مدة التعافي من المرض.
والسؤال هو كيف نجحت دولة الإمارات في تحقيق إنجازات أفضل من دول كثيرة متقدمة؟ وكيف استطاعت الدولة تطويع وسائلها ومواردها في تحقيق الهدف لاحتواء الجائحة؟
أول العوامل التي ساهمت في التغلب على هذه الجائحة هي القيادة. عندما تواجه المجتمعات أزمات فإن دور القيادة مهم في مواجهة هذه الأزمات. ومما يميز القيادة في دولة الإمارات تماسكها ووحدة هدفها في القضايا الاستراتيجية والتي تمس الأمن الوطني ووحدة ترابه واستقراره. وقد استوعب الآباء المؤسسون لدولة الإمارات أن قوتهم في وحدتهم وعليه أسس الاتحاد في العام 1971.
وقد ساعد هذا التلاحم إلى سرعة اتخاذ القرار وتطبيقه على مستوى الدولة والذي كان له الأثر البالغ في احتواء الجائحة. ولم نرَ تعدد الآراء في مواجهة الخطر الداهم، كما حصل في الولايات المتحدة بين الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية. بل إن كل إمارة انضوت تحت الجهد الوطني للقيام بالمسؤولية الوطنية لاحتواء المرض. كما أن المقاربة كانت مقاربة اشتركت فيها كل الجهات المختصة للتعامل مع الصحة العامة من الخدمات الطبية إلى أجهزة الأمنية والشرطية ورجال القوات المسلحة.
العامل الثاني وفرة الموارد في دولة الإمارات. وقد حبى الله الإمارات بموارد وثروات نمت تحت راية الاتحاد وسخرت في خدمة الوطن. واستطاعت القيادة الرشيدة تطويع الموارد المالية وتحويلها إلى قدرات برزت أهميتها خلال أزمة «كورونا». فالاستثمار في البنية الصحية منذ قيام الدولة أثمر عندما لاحت هذه الأزمة في الأفق.
وتمثلت هذه القدرات في توفير المشافي والأدوات الصحية والطواقم الطبية. ومع تطوير الكادر الوطني في المجال الصحي، استعانت الدولة بالخبرات الأجنبية في مجالات الصحة والتطبيب. وتشير الإحصاءات إلى أن الإمارات تتمتع بنسب عالية في توفر الأطباء بالنسبة للسكان. فهناك 2.39 طبيب لكل ألف من السكان. وهناك 5.89 ممرضات لكل ألف من السكان. وتعتبر هذه النسب من أعلى النسب العالمية.
وتمثل القيادة الرشيدة والحكومة الاتحادية رأسمالاً سياسياً مهماً. وقد تراكم هذا الرأسمال السياسي عبر إدراك المواطنين والمقيمين أن الحكومة قائمة على رعاية المجتمع. ويسهم هذا الإدراك في تعامل المجتمع مع التوصيات والضوابط الصحية بقبول وتعاون. وأن هذه التوصيات والضوابط وضعت لحماية الفرد والمجتمع من جائحة «كورونا» مما يسهل إجراءات التطبيق.
وأخيراً، فإن عامل التكنولوجيا والاتصالات أسهم في مواجهة الوباء. وتعتبر الإمارات من أكثر الدول المتقدمة في التكنولوجيا وخاصة في تقنية الاتصالات. واستثمرت الدولة في قطاع الاتصالات لعدة عقود خلت. وقد استطاعت الدولة استخدام هذه القدرات لمواجهة تداعيات إغلاق المدارس والمصالح. كما أن التقدم في وسائل الاتصالات سهل تبليغ إرشادات الجهات الصحية والأمنية لجموع الأفراد في المجتمع. كما سهلت التكنولوجيا مراقبة المخالفين وتطبيق القوانين.
هذا باختصار شديد مدى التطور المؤسسي لدولة الإمارات ولا يزال المجال مفتوحاً لتحقيق مزيد من التطور ولا يجب التوقف عند ما وصلت إليه الدولة من تطور. بل إن الإنجازات التاريخية الكبيرة يجب أن تكون دافعاً إلى مزيد من التميز والتقدم.
وكما قال المتنبي: «تُريدينَ لُقيانَ المَعَالي رَخيصَةً... وَلا بُدّ دونَ الشّهدِ من إبَرِ النّحلِ».
* كاتب وأكاديمي