تكوين الدول عملية تتطلب حقبة تاريخية طويلة. وقد تكونت الدول الحديثة في أوروبا بعد صراع طويل بين نخب سياسية واجتماعية ومجموعات بشرية تعيش في رقعة جغرافية.
وقد بدأ كثير من هذه الدول في النشوء والتطور مع اندلاع الحروب بين ممالك ومناطق الحكم.وكان مطلب المقاتلين والمال أدى إلى توسع الدولة للحصول على الضرائب والجنود، والذي بدوره سبب باشتعال الصراعات وهكذا دواليك إلى أن استقر الوضع على ما هو عليه بعد توقيع اتفاقية وستفيليا والتي وقعت في 1648. وقد أقر هذا الصلح بين الممالك المتحاربة سيادة الدول على أراضيها وسكانها دون اعتبار للطوائف والملل والنحل.
وإذا ما انتقلنا إلى الشرق الأوسط، فإن كثيراً من الدول تطورت حديثاً بعد أن كانت خاضعة للحكم العثماني والفرنسي والبريطاني. ورغم أن هناك سلطات قامت في مختلف أرجاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قبل وصول الاستعمار، إلا أن الدول العربية في صياغتها الحديثة هي دول ما بعد الكولونيالية.
وقد تنازعت بعض هذه الدول الفتية ولاءات متعددة محلية وعابرة للحدود، مما تسبب في كثير من الصراعات. ولعل المثال اللبناني أهم تجليات هذه المعضلة. وقد واجهت الدولة العربية الحديثة هوية عربية عابرة للحدود وهوية إسلامية أوسع من النطاق العربي.
وتاريخياً، كان ينظر إلى الدولة القطرية بعين الريبة على أنها صناعة استعمارية، وأنها وليدة اتفاق سايكس - بيكو والذي تقاسمت الدولتان الاستعماريتان، بريطانيا وفرنسا، مناطق معينة في العالم العربي.وبطبيعة الحال، كانت هناك استثناءات لهذه القاعدة. فعلى سبيل المثال كانت مصر وتونس والمغرب تشكل دولاً وشعوباً منسجمة في قطر واحد لأسباب تاريخية. ولعل هذا السبب الذي أدى إلى صمود هذه الدول في وجه العواصف التي اجتاحت الوطن العربي في بداية العقد الحالي، بعكس العراق وسوريا اللذين تشكلا بسبب الاتفاق آنف الذكر. كما أن مجتمعيهما منقسمان إلى عدة إثنيات وطوائف لا زالت تنأم في صراع لتحقيق حقوقها في هذه الأوطان.
ونرى هذه الأيام كيف أن هذه الصراعات تعبر عن نفسها في حروب أهلية كما في اليمن وسوريا وليبيا وإلى حد أقل في العراق. وكيف أن التصدعات الداخلية تسمح للاعبين الإقليميين والدوليين بالتغلغل في الشأن الداخلي لهذه البلدان.
وليس هناك أدل من وهن الدولة القطرية من استفحال الجماعات المسلحة، والتي تقوض وجود الدولة الفعلي. فالدولة حسب التعريف الفيبيري هي منظمة تستحوذ على وسائل السيطرة الشرعية في حدود جغرافية معينة. وكلما خف احتكار الدولة لوسائل السيطرة كلما ضعفت قوتها. فانتشار السلاح والميليشيات يعد من أبرز المعوقات الأساسية لتطور الدولة الفاعلة. ولا يعني ذلك الاستبداد مطلقاً، بل يعني أن السلاح الشرعي يكون في يد كيان واحد، لا في عدة كيانات تتصارع فيما بينها كما يحصل في بلدان عربية عدة.
وقد سهل تواجد جماعات مسلحة في أقطار عديدة إلى استخدمها في حروب بالوكالة. ولا شك أن الميليشيات الطائفية في العراق تستخدم في الاحتراب الداخلي وفي الحرب الأهلية في سوريا. كما أن التقارير الواردة تشير إلى أن المقاتلين في سوريا يلعبون دوراً في الحرب المشتعلة في ليبيا.
وفي 2016 ، سعى باحثون ودبلوماسيون ومؤرخون من عدة بلدان في الشرق الأوسط والولايات المتحدة أوروبا إلى تشكيل مجموعة عمل لمناقشة اتفاق وستفيليا للشرق الأوسط. وقد تم المشروع برعاية من جامعة كامبريدج البريطانية ومؤسسة كوربر الألمانية.
وقد تمخضت عدة تقارير من هذه الاجتماعات بشأن التوصل إلى حلول خلاقة لمعالجة الأزمات المتكررة في الشرق الأوسط. ومن المهم أن تأخذ الدول العربية هذا الموضوع المهم على محمل الجد، لما له من تأثير على التنمية السياسية وتطور الدولة القطرية.
* كاتب وأكاديمي