استطاعت دولة الإمارات، عبر دبلوماسيتها الرفيعة، إبرام معاهدة سلام مع إسرائيل، لتحقيق مصالح استراتيجية عدة، منها إيقاف ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية، وقد لاقى ذلك صدى إيجابياً كبيراً، وفي المقابل أزعج أصحاب الرؤى الضيقة والمتطرفين، الذين سعوا لتأجيج الرأي العام، مستخدمين أساليبهم المعهودة من استدرار العواطف وقلب الحقائق.
والناظر فيما عند هؤلاء يجد أنها شبهات واهية سيقت لدعم أحزاب وتنظيمات معينة، قامت طيلة العقود الماضية باستغلال قضايا المسلمين، وتجييرها لمصالحهم الخاصة، وقد أحببنا في هذا المقال الرد على بعض هذه الشبهات، وبيان مجافاتها للشرع والعقل.
فمن شبهاتهم ادعاء أن الصلح مع إسرائيل إخلال بالعقيدة، وهذا زعم باطل، ترده نصوص القرآن والسنة التي تضافرت على أن الصلح مع غير المسلمين جائز، وأن ذلك من باب المعاملات المنوطة بولاة الأمر، قال تعالى:
{وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها}، وقال سبحانه في مستهل سورة الفتح التي نزلت بشأن صلح الحديبية: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً}، قال أنس بن مالك في تفسير الآية كما في الصحيحين: «صلح الحديبية»، وقال النبي عليه السلام بعد نزول هذه الآية فيما أخرجه مسلم: «لقد أُنزلت عليَّ آيةٌ هي أحبُّ إليَّ من الدنيا جميعاً»، فتأمَّل كيف سمى الله تعالى هذا الصلح فتحاً مبيناً، وفرح النبي عليه السلام بذلك فرحاً عظيماً؛ لتعلم يقيناً أن هذا الباب من تمام الدين.
ومن شبهاتهم العاطفية تنفير الناس من السلام بدعوى أن الطرف الآخر يهود، وتحريف الآيات عن مرادها، كاستدلالهم بقوله تعالى: {لتجدنَّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود}، وهذا استدلال باطل، فالآية على فرض حملها على العموم وإن كانت هناك أقوال أخرى فإنَّ وجود العداوة من الطرف الآخر لا يمنع الصلح معه، فإن قريشاً كانوا من أشد الناس عداوة للمسلمين، وهم عبدة أوثان، ومع ذلك صالحهم النبي عليه السلام مراعاة للمصالح العامة، ولذلك استنبط العلماء من ذلك أن الصلح مع اليهود جائز من باب أولى، فإنهم أهل كتاب، وقد عقد معهم النبي عليه السلام الصلح في المدينة.
ومن شبهاتهم إلغاء المصالح الخاصة للدول بدعوى مراعاة مصلحة الأمة بزعمهم، وهذا فهم مغلوط للسياسة الشرعية، قال الشيخ ابن باز: «كل دولة تنظر في مصلحتها، فإذا رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء وغير ذلك من المعاملات التي يجيزها شرع الله المطهر، فلا بأس في ذلك».
ومن شبهاتهم عدم الاعتراف بالقرارات السيادية للدول والصلاحيات الحصرية لولاة الأمر والتدخل في شؤونهم، وذلك مخالف لقوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، وقوله سبحانه: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}، ولذلك قال ابن عثيمين: «ما يتعلق بالصلح مع إسرائيل أمر يتعلق بالحكومات، ليس إليَّ ولا إليك».
ومن شبهاتهم الاستدلال بأن اليهود اغتصبوا ديار المسلمين، فلا يجوز الصلح معهم، وممن ردَّ على ذلك الشيخ ابن باز بقوله: «إن قريشاً أخذوا أموال المهاجرين ودورهم، كما قال الله سبحانه: {للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم}، ومع ذلك صالحهم النبي عليه السلام يوم الحديبية؛ مراعاة للمصلحة العامة للمسلمين، ولمن يرغب الدخول في الإسلام».
ومن شبهاتهم كذلك تسييس الدين، وإهمال الغايات العظمى من ورائه، وهي هداية الناس وتأليفهم وبيان سماحة الدين لهم، ولذلك ذكر طائفة من العلماء أن النبي عليه السلام لم يصالح قريشاً لعجزه عن مواجهتهم، بل كان أقوى منهم، وصالحهم طمعاً أن يُسلموا، وقد كان ذلك، قال ابن القيم:
«دخل في ذلك الوقت في الإسلام قريب ممن دخل فيه إلى ذلك الوقت»، ومن أسباب ذلك اختلاط المسلمين بغيرهم، واستثمارهم فرصة الصلح لإظهار سماحة الإسلام لهم، ولم يقل أحد منهم إن ذلك تطبيع ومهادنة وتنازل عن الحقوق كما يقول الأدعياء اليوم!!
إن الرافضين للسلام من المتعالمين ليس لهم أي حجة، بل إنهم أبعد ما يكونون عن روح الشرع ونور العقل.
* رئيس مركز جلفار للدراسات والبحوث
أحمد محمد الشحي*