يشهد هذا العام، في نوفمبر المقبل، انتخابات أمريكية مهمة ستقرر مصير رئاسة ترامب، إضافة لانتخاب كل أعضاء مجلس النواب، وثلث عدد أعضاء مجلس الشيوخ وبعض حكام الولايات. وكما في كل سنة انتخابية، يتساءل الكثيرون عن دور «الجالية العربية» في أمريكا، بل السؤال ينطبق على الانتخابات في معظم دول الغرب، حيث لا تظهر فاعلية كبيرة توازي ما تقوم به جماعات أخرى معادية للقضايا العربية.
ربما تكون أهم الأسباب هي خطأ المقارنة أصلاً بين حال العرب في أمريكا (أو في دول غربية أخرى) بحال الجاليات الأخرى. فالواقع أنّ «العرب الأمريكيين» مثلاً هم حالة جديدة في الولايات المتحدة مختلفة تماماً عن الحالة اليهودية على سبيل المثال. العرب جاءوا لأمريكا كمهاجرين حديثاً من أوطان متعدّدة إلى وطن جديد، بينما اليهود في أمريكا هم مواطنون أمريكيون، أي عكس الحالة العربية والإسلامية الأمريكية وما فيها من مشكلة ضعف الاندماج مع المجتمع الأمريكي.
حالة العرب في أمريكا مختلفة أيضاً من حيث الأوضاع السياسية والاجتماعية، فكثيرٌ منهم أتوا كمهاجرين لأسباب سياسية واقتصادية، وغالباً لأسباب أمنية تعيشها المنطقة العربية، مّا يؤثّر على نوع العلاقة بين العربي في أمريكا والمنطقة العربية. وتتعامل المؤسّسات العربية - الأمريكية مع علاقات عربية متشعبة ومختلفة بين أكثر من عشرين دولة عربية وبين الولايات المتحدة. من ناحية أخرى، فإنّ للعرب الأمريكيين مشكلة تحديد الهويّة وضعف التجربة السياسية، فلقد جاء العرب إلى أمريكا من أوطان متعدّدة، ومن بلاد ما زالت الديمقراطية فيها تجربة محدودة، إضافةً إلى آثار الصراعات المحلية في بلدان عربية على مسألة الهويّة العربية المشتركة.
أيضاً، من المهمّ التمييز بين حالاتٍ ثلاث مختلفة تتّسم بها الجالية العربية في أمريكا وتنطبق على العرب في أوروبا: فهناك «أمريكيون عرب»، وهم أبناء الجيل المهاجر الأول، و«عرب أمريكيون» وهم الأجيال التالية التي لم تذب تماماً بعد في المجتمع، لكنها مندمجة فيه بقوّة وتشارك في العمليات الانتخابية، وهناك «عرب في الولايات المتحدة» وهؤلاء لم يصبحوا مواطنين أمريكيين بعد. وبينما نجد أغلب «الأمريكيين العرب» غير متواصلين مع البلاد العربية الأم، نرى أنّ الفئة الثالثة (أي المهاجرون الجدد) غير متواصلة بعمق مع المجتمع الأمريكي نفسه، ولكلٍّ من هذه الفئات نظرة مختلفة للحياة الأمريكية ولدورها في المجتمع، إضافةً لتعدّد الانتماءات الدينية والطائفية والإثنية في الجالية العربية. فالبعض مثلاً يندفع نحو منظمات إسلامية، وهو ما يستبعد نصف الجالية العربية، حيث أكثرية الجالية العربية في أمريكا هي من جذور دينية مسيحية بينما أكثرية الجالية الإسلامية هي من أصول غير عربية.
إذن، كلّما كان هناك تعامل فكري عربي سليم فيما يتعلق بمسألة الهوية ستتعزّز معه إمكانات الجالية في أن تنجح عملياً وتتجاوز كثيراً من الثغرات. فالجالية العربية في أمريكا (كما هي في أوروبا) تعيش محنة ارتجاج وضعف في الهُويتين العربية الأصلية وفي الهُوية المستحدثة. فالمهاجرون العرب، أينما وُجِدوا، ينتمون عملياً إلى هويتين: هوية أوطانهم العربية الأصلية، ثمّ هوية الوطن الجديد الذي هاجروا إليه. وقد تفاعلت في السنوات الأخيرة، خاصّة عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، جملة تطوّرات انعكست سلبياً على الهويتين معاً. ففي الحالة الأمريكية أصبح المواطن الأمريكي ذو الأصول العربية موضع تشكيك في هويته الأمريكية وفي مدى إخلاصه أو انتمائه للمجتمع الأمريكي. وقد عانى الكثير من العرب في عدّة ولايات من هذا الشعور السلبي لدى معظم الأمريكيين غير العرب حيال كل ما يمتّ بصلة إلى العرب والعروبة والإسلام.
أيضاً، ترافق مع هذا التشكيك، تشكّك ذاتي حصل ويحصل مع المهاجرين العرب في هويّتهم الأصلية العربية، ومحاولة الاستعاضة عنها بهويّات فئوية بعضها ذو طابع طائفي ومذهبي، وبعضها الآخر إثني أو مناطقي أو في أحسن الحالات إقليمي.
وإذا كان مردّ التشكيك الأمريكي بـ«الهويّة الأمريكية» للمهاجرين العرب هو «الجهل»، فإنّ سبب ما يحدث من تراجع وضعف في مسألة «الهويّة العربية» على الجانب الآخر، هو طغيان سمات مجتمعية بدائية على معظم المنطقة العربية، وانعكاس هذا الأمر على أبنائها في الداخل وفي الخارج.
إنّ العرب في الأوطان العربية منشغلون اليوم في همومٍ كثيرة؛ بعضها ذو عناوين سياسية محلّية، والبعض الآخر منها يدخل في دائرة الهموم الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، لكن بشكلٍ عام هي الآن همومٌ وطنية داخلية في صراعاتها وساحاتها، وتنعكس سلباً على معظم المهاجرين العرب، وهي مرحلةٌ مختلفة تماماً عمّا كان عليه واقع العرب قبل نصف قرن، حيث لم يعرف ذاك الزمن التمييز بين العرب على أساس الانتماءات الوطنية أو الطائفية أو الإثنية.
* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن