جاءت الأخبار، الخميس الماضي، صادمة للتونسيين ولثقافتهم التي ربّتهم عليها دولة الاستقلال الوطنية، وهي ثقافة بُنيت على المعرفة والتسامح والانفتاح على الآخر.

شاب تونسي ضاقت به سُبل الحياة في بلده، فهاجر بصفة غير قانونية إلى إيطاليا، ومنها تسلّل إلى فرنسا، لينفّذ الخميس الماضي عملية إرهابية في كنيسة بمدينة نيس الفرنسية السياحية، وذهب ضحيتها ثلاثة أشخاص، بينهم سيّدة فوق سنّ السبعين.

ويرى الفرنسيون أنّ في تعدّد العمليات الإرهابية على أرضهم وضدّ مصالحهم في الداخل والخارج، استهداف جدّي لقيمهم والمنظومة السياسية والحضارية في فرنسا.

ولن نعود إلى الجدل الذي أثير بمناسبة آخر ثلاث عمليات إرهابية نُفّذت في هذا البلد، غير أنه من الأكيد أن علاقة فرنسا وأوروبا عموماً مع «الإخوان» وجماعات «الإسلام السياسي» لن تكون في المستقبل مثلما كانت عليه قبل العمليات الإرهابية الأخيرة، وسيكون قطعاً هناك ما قبل هذه العمليات وما بعدها.

ولكنّه في المقابل قد يكون من الضروري التنصيص على أن هذه العمليات الإرهابية يُنفّذها شبان صغار، وهُم في غالبيتهم حديثو العهد بالانتماء إلى الفكر المتطرّف، وهُم أقرب إلى عالم الجريمة والانحراف منهم إلى الدين، وفي أغلبهم هم تحت تأثير جماعات متطرّفة وإرهابية بالضرورة، وذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي.

وبات من الواضح أن هذه الجماعات تنتقي «ضحاياها» من أوساط اجتماعية هشّة، سواء كان ذلك في المناطق المحرومة والتي لا تتوفّر فيها مقوّمات التنمية والعيش الكريم، أو يقع «انتدابهم» من بين المنحرفين وذوي السوابق الإجرامية في السجن أو خارجه.

وبدا أيضاً أن الجماعات المتطرفة والإرهابية «تنتدب» هؤلاء الشباب أو تشحنهم باستعمال الإغراءات المادية أو المعنوية لمهمّة واحدة ثمّ تتركه لمصيره المحتوم.

المهمّ أن العملية الإرهابية الأخيرة في فرنسا، كشفت مرّة أخرى حجم المأساة التي تردّى فيها المجتمع التونسي، والذي يكاد يكون أرضية خصبة وملائمة لتفريخ الإرهابيين، وذلك جرّاء استمرار سياسات حكومية لا تستجيب لمشاغل الناس وهمومهم ومشاكلهم، وهي سياسات تغضّ الطّرف عن تنامي الفقر في المجتمع التونسي، والذي يكاد يُصبح الشيء الأعدل قسمة بين التونسيين.

إنّ هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردّي دفع ويدفع شرائح شبابية واسعة كي تكون فريسة سهلة توظّفها جماعات «الإسلام السياسي» من أجل توسيع رقعة الإرهاب والدمار في العالم.

ومن البديهي القول إن حركة «النهضة» هي المتحكّم الفعلي في عمل الحكومات المتعاقبة منذ أكتوبر 2011 رغم فاصل حُكم «نداء تونس» بزعامة الرئيس الرّاحل الباحي قايد السبسي، والذي اضطرّه القانون الانتخابي والسلوك السياسي لبعض الأحزاب المدنية، إلى التعاطي مع «النهضة» رغم خسارتها في الانتخابات.

إنّ تحكّم «النهضة» في العمل والسياسات الحكومية منذ 2011 لم توظّفه لمواجهة مشاغل المواطن، وإيجاد الحلول التي تضمن كرامته، بقَدْرَ ما مثّل مناسبة لها من أجل إحكام قبضتها على مفاصل الدولة والإدارة في غياب شبه تام لعنصر الكفاءة، وهو ما أدّى إلى إرباك أداء الدولة والإدارة وإلى نتائج اقتصادية واجتماعية كارثية.

وقد جاء رفض البنك المركزي التونسي لمشروع الميزانية التكميلية لسنة 2020 ليؤكد عمق الأزمة والدمار الذي لحق بالمجتمع التونسي، الذي يعاني أيضاً من أزمة سياسية لا تنتهي، وهذا الوضع غير المسبوق حمل الخبير الاقتصادي الدولي ووزير المالية الأسبق حكيم بن حمّودة على القول إنه «حانت ساعة الإعلان عن حالة طوارئ اقتصادي كردّ قانوني ومؤسّساتي وسياسي لمجابهة كافّة الأخطار التي تهدّد الأمن القومي التونسي»، لكنّ هذا الطرح يستوجب أوّلاً وجود وعي وتوفّر كفاءات، وهو ما نعتقد أنّه للأسف مفقود.

إنّ سياسات حركة النهضة والعجز الذي تبديه الأطراف السياسية أمام تغوّلها، دَفْعٌ بتونس إلى طريق بلا أفق، وهو يخدم موضوعيّاً استراتيجية جماعات «الإسلام السياسي»، وهو ما سيجبر مواطني تونس وشبابها إلى الارتماء في أحضان الجريمة والتطرّف والإرهاب.

وإنّ غياب سياسة أوروبية موحّدة حيال الهجرة واللجوء السياسي مثّل ثغرة استغلّتها جماعات «الإسلام السياسي» للدّفع بشرائح هامّة من الشباب إلى الهجرة من أجل تنفيذ مخطّطاتها الشيطانية، وهو ما يُرجّح استمرار مناخات الإرهاب.

إنّ تونس، التي مثّلت على مدى الأحقاب مثالاً يحتذى، تستحقّ أفضل من هذا المصير المشؤوم.

* كاتب تونسي