نقول بكل اطمئنان بصحة ما نقول، إن كل من لا يعرف دلالة المفاهيم الأربعة، الواقع والممكن والوهم والمستحيل، ومعانيها والفروق بينها، فإنه ليس باستطاعته أن يفكر على نحو صحيح، بل لا يستطيع أن يفكر أصلاً. سواء كان رجل سياسة، أو رجل تخطيط أو رجل اقتصاد أو رجل ثقافة، بل إن التمييز بين هذه المفاهيم شرط ضروري غير كافٍ للتفكير بالمستقبل المتجاوز للواقع على نحو أرقى.

يقود الواقع إلى نوعين من الواقعية هما، الواقعية الزائفة والواقعية الحقيقية. فالواقعية الزائفة هي القبول الدائم بواقع الحال، خوفاً عليه، بعجره وبجره، وضعف في الإرادة، واقعية كهذه تقود إلى الاستنقاع الذي إن طال أمده أصبح التأخر معنداً، فيما الواقعية الحقيقية هي تغيير الواقع على نحو دائم والعمل على كشف الممكنات المتوافقة مع الإرادة، والفاعلية الواقعية المبدعة الإرادة، القادرة على كشف الممكن الواقعي والعمل على تحقيقه. تأسيساً على ما سبق فإن أي مشروع لا ينطوي على جدل العلاقة بين الواقع والممكن، ليس سوى حماقة تاريخية.

ويصطدم التاريخ الواقعي أحياناً بما يعيق سيرورته لفترة طويلة، نقصد الوهم الذي يحرك الإرادة التي لا تفكر. أتحدث هنا عن الوهم الأيديولوجي. والوهم الأيديولوجي أضغاث أحلام تنتمي إلى المستحيل.

بل كل وهم، سواء كان وهماً مريضياً أم وهماً أيديولوجياً، هو ضرب من التعويض عن عجز عقلي في فهم الواقع وتغييره، إنه تصور واقع في الذهن ليس بمقدور الإرادة أن تنقله إلى الحياة.

وأخطر أنواع الوهم، هو الوهم المقدس المسلح بالعنف، ومصدر خطورته يعود إلى أن هذا الوهم يزود أصحابه بطاقة غير طبيعية على الفاعلية، ولأن صاحب الوهم المقدس يحوّل الوهم في ذهنه إلى حقيقة مطلقة.

فالوهم الأصولي المتمثل بحركات عنفية، مثلاً، يحول وهمه إلى وهم قاتل، ظناً منه بأنه قادر على تحقيق ما يصبو إليه عن طريق العنف.

وقس على ذلك، وهم الدكتاتوريين الذين يُهيّأ لهم وهمهم بأنهم لا تسري عليهم عوائد الزمن، ويدمرون المجتمع والحياة من أجل فترة حكم زائلة لا محالة. وما المستنقع الذي يراكمونه وينفجر بعد موتهم أو زوالهم إلا النتيجة الطبيعية لأوهامهم. المستنقع الذي هو الأرض التي تنبت عليه الأوهام المقدسة القاتلة أو غير القاتلة.

ينتقل الوهم المقدس، من الجهل بحقائق العلم والمعرفة وقوانين الطبيعة، إلى الوهم القاتل حين يخف لتحقيق المستحيل، إنه لا يدرك، وهو الغارق في الوهم، الفرق بين الممكن والمستحيل، ويتعامل مع المستحيل بوصفه ممكناً، فيخوض معركته الخاسرة حتماً دون أية اعتبارات للنفس البشرية.

وينظر أصحاب الوهم القاتل إلى النفس البشرية على أنها وسيلة رخيصة لتحقيق الوهم المقدس، لا فرق عندهم هنا بين الإنسان الواهم، ومن هو ضد الوهم، فالتضحية بالقاتل والمقتول معاً هي استراتيجياً الوهم المقدس القاتل. فالوهم أثمن من الإنسان، لأن قيمة الإنسان تحولت إلى قيمة مرتبطة بتحقيق المستحيل. والوهم، بهذا المعنى، أكثر قيمة من الإنسان، ولأن صاحب الوهم ينطلق من هذه الفكرة الزائفة، فإن موته وموت الآخر ثمن بسيط لقاء تحقيق وهمه. بل إن دمار البلاد وموت العباد لا يساوي شيئاً أمام وهمه المقدس القاتل. وهذا يعني بأن الحياة نفسها لم يعد لها قيمة أو معنى بحد ذاتها. فمعنى الحياة لدى أصحاب الوهم، يكمن في تحقيق الوهم فقط.

ولا يحسبن أحد بأن الوهم المقدس وقف على أهل الوعي الديني الزائف، وإنما هو حاضر حتى عند أصحاب الأيديولوجيات الدنيوية، التي تتحول عند معتقديها إلى شكل جديد من الوعي الديني.

فكل الأيديولوجيات، دينية كانت أم دنيوية، تنطوي على فكرة مقدسة أثمن من الإنسان الفرد، حيث تنتصر غريزة القطيع، ويغدو السلوك سلوكاً قطيعياً شعاره الحقيقي، الموت من أجل الوهم.

ولعمري أن مقاومة الأوهام المقدسة تلك يجب أن تتسلح بمنجزات العلوم الإنسانية، علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة. ففهم الظاهرة، المقدمة الضرورية لمواجهتها.