التوتر بين الأقاليم والعرقيات في إثيوبيا ليس بحدث جديد لم تألفه أديس أبابا من قبل، بل هو سمة بارزة في أفريقيا عموماً، ولكن تكمن الغرابة في حجم المراهنة على تقسيم إثيوبيا وانفصال أحد أقاليمها، وكأن إثيوبيا دولة مهملة في القاموس الدولي، وليست ركيزة من ركائز الميزان الدولي، فالقوى الدولية ترى في إثيوبيا دولة مركزية وقوة صاعدة في القرن الأفريقي، ومؤهلة لقيادة شرق أفريقيا في السنوات الخمس القادمة، وهذه الرؤية الدولية تدعمها خصائص اختصت بها إثيوبيا على سائر دول الإقليم، فإثيوبيا دولة تاريخية عريقة، فهي تمثل امتداداً لـ«مملكة أكسوم» ومركز الأرثوذكسية، وبها كنيسة من الأقدم في العالم، ويتجاوز عدد سكانها 100 مليون نسمة، ناهيك عن امتلاكها مصادر مياه ضخمة، ما جعلها ذات أهمية في المنطقة والعالم.

شهدت إثيوبيا مؤخراً تدهوراً حاداً بين الحكومة الإثيوبية وإقليم تيغراي، وسبب ذلك هو مصادقة البرلمان الإثيوبي على إحالة طلب تفسيرات دستورية بشأن إجراء انتخابات في ظل التأجيل بسبب جائحة «كورونا»، إلى مجلس التحقيق الدستوري للبت فيه، ولكن إقليم تيغراي رفض تلك الإجراءات، وأعلن بدء إجراء انتخابات، وهذا ما آثار حفيظة الحكومة المركزية، ودفعها إلى الاشتباك مع الإقليم، واختلفت ردود الأفعال في القرن الأفريقي تجاه تلك الأحداث، فإريتريا جاء دورها داعماً للحكومة الإثيوبية ضد خصمها جبهة تحرير تيغراي، أما الصومال فتنظر للأحداث الإثيوبية بعين الحرص على معرفة ما يجري، أكثر من عين القلق مما يمكن أن تنتج عنه تلك الأحداث، أما جيبوتي فتنظر بعين الحرص والقلق معاً، لما يمكن أن يسفر عنه تلاحق الأحداث، ويعود السبب في اختلاف ردود الأفعال بين العواصم الثلاث إلى تاريخ علاقة إثيوبيا بتلك العواصم (مقديشو، أسمرة، جيبوتي)، أما الخرطوم التي باتت تتحمل جزءاً من عبء تلك الأحداث، بعد أن أصبحت حدودها تشهد تدفقاً بشرياً وجد في السودان ملاذاً آمناً بعد تصاعد الأحداث، تبدو هي الأقرب للخيار الدولي في مهمة تهدئة الملف الإثيوبي، دعماً لدور السودان في المنطقة، وإدراكاً لتاريخ التعاون الأمني الاستخباراتي السوداني الإثيوبي.

ومن المرجح أن جبهة تيغراي، وفي ظل المناوشات العسكرية، وتضاعف أعداد اللاجئين، سوف تصل مع أديس أبابا لاتفاق ستتوقف على إثره هذه الاشتباكات، ولكن ليس معنى ذلك أن الخلافات انتهت، وهذا ما تدركه الحكومة الإثيوبية، وستعمل جبهة تيغراي على محاولة تغيير المشهد السياسي، بتعزيز التحالف مع خصوم رئيس الوزراء آبي أحمد، ولكن لا أفق في هذا الاتجاه، لأن آبي أحمد يحظى بدعم إقليمي ودولي يرى فيه قائداً للمرحلة المقبلة، وما يهم هذه الأطراف أن تبقى إثيوبيا موحدة وقوية.

في ظل التطورات الأخيرة في السودان ومنطقة القرن الأفريقي، خاصة بعد عودة السفارة الأمريكية إلى مقديشو، بدأت عملية ضبط التوازنات الإقليمية والدولية، وعليه أرى أنه سيتم تقوية إثيوبيا استراتيجياً، وذلك إما بتوقيع صفقة مع أسمرة لتمكين أديس أبابا أكثر من الموانئ الإريترية على البحر الأحمر، وإما العودة إلى إحياء ملف الكونفيدرالية بين البلدين الجارين.

خليجياً، بالرغم من تباين الرؤى السياسية وتقاطع المواقف في بعض الملفات، فإن دول الخليج العربي أجمعت على دعم الحكومة الإثيوبية، حفاظاً على الاستقرار في إثيوبيا والقرن الأفريقي، خاصة أن التزام إدارة رئيس الوزراء الإثيوبي بالحيادية في جل الملفات الدولية والإقليمية، عاد على إثيوبيا بالنفع الكبير، حتى في حربه الأخيرة مع إقليم تيغراي، والتي من المتوقع أن تنتهي قريباً، فإثيوبيا دولة ترجح القوى الدولية كفة الاعتماد عليها، وبالتالي لن تسمح بانفراط العقد الإثيوبي أو بتهديد سلامة أراضيه.

أخيراً، أرى أن مستقبل العلاقات الخليجية مع دول القرن الأفريقي سيتفوق على حساب مستقبل العلاقات الخليجية الأفريقية عموماً، وذلك بسبب أن التعاطي الخليجي مع قضايا القرن الأفريقي يختلف عن التعاطي مع ذات القضايا في عموم أفريقيا، ففي الوقت الذي ترمي دول الخليج بثقلها لمعرفة ما الذي يدفع أقاليم في القرن الأفريقي للانفصال عن الدولة المركزية، نرى أن ذلك الدافع الخليجي مختفٍ تماماً في أقاليم تطرح ذات السياق الانفصالي في غرب أفريقيا، ناهيك عن حدة التنافس الدولي على الممرات المائية.