بصرف النظر عن نصيب «ثورات» ما سمّي بـ«الربيع العربي» من المفردات والتعبيرات الدالة على فصول العام؛ ربيعاً أم خريفاً، وشتاءً أو صيفاً؛ فإن هذه الاحتجاجات والانتفاضات تعد من أهم الأحداث التي ميّزت نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، على الصعيد العربي والإقليمي؛ ذلك أنها تميّزت بعمق هذه الاحتجاجات والتظاهرات واتساع مداها جغرافياً، وأنها زاوجت بين الإصلاح والثورة، ولم تستلهم نماذج ثورات القرن الثامن عشر والتاسع عشر أو ثورات القرن العشرين أي الثورة الفرنسية والبلشفية وثورة التحرر الوطني، بل استلهمت نموذج ثورات نهاية القرن العشرين السلمية أو «المخملية» أو الملوّنة في أوروبا الشرقية وغيرها من البلدان.
كل ثورة على حدة، تنخرط في سياق تاريخي واجتماعي واقتصادي وثقافي مختلف، باختلاف الدول وتقاليدها في الاحتجاج والنابعة من التجربة الوطنية، تزامن احتجاجات الربيع العربي في أكثر من دولة عربية، يعود في المقام الأول إلى درجة من التجانس والتطابق بين الظروف الاقتصادية والثقافية والسياسية؛ تلخّصت في انسداد آفاق المستقبل أمام الأجيال الجديدة، وفقدان الأمل وظهور اتجاهات لتوريث الحكم، وحدوث نمو ولكن دون تنمية حقيقية توفر فرص العمل والكرامة للأجيال الشابة.
وبداية في معرض الإجابة عن هذا السؤال، نلفت النظر إلى تلك المزاوجة بين تعبير الثورات والانتفاضات في طرح هذا السؤال، ذلك أن العديد من الخبراء والمراقبين لهذه الثورات وأحداثها يرون أن الثورة تسمى كذلك، عندما ينجح الثوار في السيطرة على سلطة الدولة، وتشكيل تحالف سياسي جديد من الفئات المختلفة، التي شاركت فيها، وعجز الدولة عن السيطرة على الاحتجاجات واحتواء تداعياتها، أما في حالة الفشل فتسمّى انتفاضة.
وإذا ما نحّينا جانباً ذلك الجدل الممتد حول طبيعة احتجاجات «الربيع العربي»، فإن حصادها بعد مرور عقد من الزمان لا يمكن تجاهله أو غض الطرف عنه، وإذا كانت الثورة في خمسينيات القرن العشرين استهدفت الكرامة الجماعية من خلال شعار «ارفع رأسك يا أخي.. فقد مضى عهد الاستعمار» بصوت الزعيم الراحل الخالد جمال عبد الناصر، فإن احتجاجات «الربيع العربي» قد استهدفت الكرامة الفردية، من خلال شعارات «حرية، عدالة، كرامة إنسانية»، وفي حين أن ثورات الخمسينيات قد استهدفت التحرّر من سيطرة الخارج الاستعماري المهيمن والاستقلال، فإن احتجاجات «الربيع العربي» قد استهدفت الداخل المهيمن من مختلف الفئات التي سيطرت على الوضع الداخلي، وهمّشت الشباب وبقية فئات المجتمع، وسعت لتوريث امتيازاتها للأصدقاء والمحاسيب والأبناء من خلال الفساد وفرض القيود على الحريات، وتغييب المواطنين، وبذلك يبقى من هذه الاحتجاجات وربما للمرة الأولى في التاريخ العربي الحديث أنها توجهت للداخل، وتحررت من سطوة النظر إلى الخارج باعتباره أس البلاء والتخلف والقهر، وقامت بتشخيص فطري وطبيعي للأوضاع، ورأت من خلاله أن المشكلة التي ينبغي مواجهتها تكمن في الداخل من تحالف الفئات المسيطرة وعلاقاتها الزبائنية، بالعصر.
أدرك «الإخوان» أن هذه التظاهرات مختلفة عن المرات السابقة، ودخلوا بثقلهم التنظيمي والتعبوي على خط هذه التظاهرات، وهو الأمر الذي يفسر العنف الذي رافق هذه الاحتجاجات بعد نشوبها، تدمير أقسام الشرطة ونهب أسلحتها والاعتداء على ضباط الشرطة وجنودها وتحريف وجهة الاحتجاجات عن طابعها السلمي والإصلاحي كان هو الهدف، الذي رمت إليه جماعة الإخوان وفصائل الإسلام السياسي السلفي والجهادي؛ بغرض الوصول للحكم وتصفية حساباتهم مع الدولة المصرية.
ما بقي وتبقى من احتجاجات «الربيع العربي» خاصة في مصر باعتبارها حجر الزاوية في استقرار الإقليم، وسيظل حاضراً في الذاكرة الجماعية للمصريين، هو انكشاف طبيعة العقل السياسي للفصائل والجماعات التي تزعم الانتماء للإسلام، وكشف طبيعة الخطاب السياسي المراوغ والمزدوج، والذي كان يصعب اكتشاف طبيعته ومراميه القريبة والبعيدة قبل نشوب هذه الاحتجاجات؛ لأن هذا الخطاب ببساطة تبنى خطاب القوى السياسية المدنية وغير الدينية، بمختلف تياراتها القومية والليبرالية واليسارية والوطنية، حيث زعم هذا الخطاب أنه مع حقوق الإنسان والديمقراطية والتغيير السلمي والمواطنة المتساوية ومناهضة إسرائيل والتطبيع، وسرعان ما تبين للمواطنين في أقصى الأماكن وأدناها ازدواجية هذا الخطاب وانتهازيته وانفصال الأقوال والتصريحات عن الأفعال والممارسة العملية، وذلك عندما وصل «الإخوان» إلى الحكم، وتكشفت طبيعة خطابهم؛ حيث قاموا بتحصين قراراتهم ضد الرقابة والمساءلة، وأفصحوا عن نيتهم في البقاء لمئات السنين، وهو ما يعني رفض تداول السلطة والتنكّر للديمقراطية، أما حقوق الإنسان فحدّث ولا حرج، حيث تعرضت للانتهاك المستمر وفتح الباب للانقسامات المذهبية والدينية، وأصبح العنف اللفظي والمادي هو السلاح الوحيد للبقاء وردع المواطنين عن الاحتجاج على ممارساتهم، كما أصبح بيريز صديقاً للرئيس الإخواني!
* كاتب ومحلل سياسي