قبل أن تصيب جائحة (كوفيد19) العالم، كانت العديد من الدول تحقق مكاسب ملموسة في رأسمالها البشرية، حيث لوحظ تحسن ملموس بنسبة 5% في مؤشر رأس المال البشري خلال العقد الأخير قبل الجائحة بحسب تقرير مؤشر رأس المال البشري لعام 2020 الصادر عن البنك الدولي. وأصبح الإنسان ودرجة كفاءته هو العامل الحاسم لتحقيق التقدم والتنمية المستدامة، وأن الاستثمار الأمثل يكمن في الاستثمار في رأس المال البشري.

ويوجد الكثير من الأمثلة على دول التي لا تمتلك أية موارد يعتد بها، ولكنها وضعت نفسها على خارطة العالم الإنسانية والاقتصادية والسياسية من خلال استثمار ثروتها ومواردها البشرية. فدولة مثل اليابان كانت محطمة ومدمرة بعد الحرب العالمية الثانية، وتقلصت مساحتها إلى حدود جزيرة اليابان المحاطة بالمياه من كل جانب والتي تفتقر إلى الموارد الطبيعية. إلا أنها استثمرت في أهم ثروة تمتلكها ألا وهي الثروة البشرية وحرصت على تأهيلها وتنمية مهاراتها وقدراتها حتى غدت دولة صناعية تشكل رقماً مهماً في العالم، على الرغم من افتقادها للموقع الاستراتيجي والثروات الطبيعية.

ومما لا شك فيه أن الجائحة تسببت في إحداث فوضى كبيرة في أنحاء العالم، وأجبرت جميع الاقتصادات على الإغلاق المطول الذي دام عدة أشهر. وتعد هذه الفترة واحدة من أسوأ الصدمات الاقتصادية منذ الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي، حيث شكلت تحدياً كبيراً يهدد رأس المال البشري في مختلف دول العالم، ويهدم المكاسب التي تم تحقيقها خلال العقد الأخير على مستوى الصحة ومعدلات البقاء على قيد الحياة والالتحاق بالمدارس، حيث تسببت في عدم انتظام أكثر من مليار طفل في الدراسة بمدارسهم. كما تعطلت الخدمات الصحية الأساسية في العديد من دول العالم وخصوصاً الدول النامية، فكان لزاماً البحث عن حلول لحماية البشر والاستثمار بهم في الوقت الذي تعمل دول العالم على إرساء أسس التعافي المستدام والنمو المستقبلي.

ويبدو أنه يجب على الحكومات اتخاذ تدابير وسياسات جديدة لتعزيز النمو طويل الأجل والخروج من تداعيات الجائحة، وعلى رأسها الاستثمار في المعرفة وبناء رأس المال البشري والمادي من خلال الاستثمار في التعليم والصحة وتحسين بيئات الأعمال لدعم قوة الاقتصاد وتحسين قدرته على مواجهة الأزمات في المستقبل، بالإضافة إلى تحفيز الاستثمار الخاص من خلال التركيز على مشروعات البنية الأساسية المحفزة لجذب الاستثمارات والإنفاق على البحث العلمي والابتكار والتحول نحو الاقتصاد الأخضر المستدام.

وما يعيب الدول العربية أن بعضها متأخر جداً في الاستثمار برأس المال البشري نتيجة تدني مساهمات التعليم والصحة في إنتاجية العمالة، ويجب عليها بذل المزيد من الجهد لتحسين فعالية وكفاءة استثماراتها في البشر. وقد حذر البنك الدولي في آخر تقرير له حول مؤشر رأس المال البشري من أن الطفل المولود اليوم في المنطقة لن يحقق أكثر من 57% من قدرته الإنتاجية بعد أن يكبر مقارنة بإنتاجيته لو كان حصل على تعليم كامل ورعاية صحية أفضل.

وأظهرت دول مجلس التعاون الخليجي أخيراً اتجاهات جديدة نحو التركيز على الاستثمار في رأس المال البشري لتحويل مسار الاقتصاد وتعزيز النمو وتحقيق تنويع مصادر الدخل وتصحيح الاختلالات البنيوية التي أفرزتها الجائحة، ما يجعل نقطة الانطلاق في العمل التنموي بوابة حقيقية للتطور الاقتصادي الشامل، حيث لا يمكنها الاستمرار على المدى الطويل في الاعتماد على النفط كمورد رئيسي لتمويل مشروعات التنمية، بل يجب اتباع نهج أكثر تكامل يشمل تعزيز الصحة العامة وجودة الحياة والحد من انتشار الأمراض غير المعدية وتطوير المناهج الدراسية القائمة على الكفاءة، فضلاً عن اتباع استراتيجيات جديدة تركز على تمكين الشباب والتحول الرقمي وخلق فرص عمل للمواطنين في القطاع الخاص.

وتحتل الإمارات المرتبة الأولى عربياً و44 عالمياً في مؤشر رأس المال البشري 2020 بفضل استثماراتها في الصحة والتعليم وتعزيز رأس المال البشري، والاستثمار في قدرات الأفراد، حيث تعتبر أولى الدول الخليجية التي منحت أولوية لتعليم الأطفال مبكراً، كما خصصت عام 2020 أكبر نسبة من الموازنة العامة لقطاعي الرفاهية البشرية والتنمية الاجتماعية بنسبة 42.3% وتضمن ذلك 17% من الموازنة المخصصة للصحة و7.3% للتعليم.

قد تكون جائحة (كوفيد19) وتداعياتها أثرت على استراتيجيات الاستثمار في رأس المال البشري على اعتبار أن دول العالم قد أُنهكت خلال العام الماضي بالحد من انتشار الجائحة، إلا أن بعد أن تزول الجائحة ويعود الوضع طبيعياً إلى سابقه، يجب تسريع وتيرة الاستثمار في رأس المال البشري كماً وكيفاً للمساهمة في بناء النموذج الاقتصادي المستقبلي المستدام.

* مدير عام «مجموعة أورينت بلانيت»