أعلن مسؤولون في «البنتاغون» أن الجيش الأمريكي يستعد لإجلاء المترجمين الأفغان، الذين يخافون على حياتهم، بينما يجري انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بتقدم طفيف عن البرنامج الزمني المحدد لذلك، وفقاً لرئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارك مايلي، الذي قال إنهم يدركون أنّ هناك عدداً كبيراً من الأفغان الذين دعموا الولايات المتّحدة والتحالف، وأنّ هذا قد يعرّضهم للخطر. وينتظر نحو 18 ألف مترجم أفغاني وجندي وغيرهم شاركوا في دعم القوات الأمريكية اتخاذ قرارات بشأن منحهم تأشيرات هجرة إلى الولايات المتحدة.
ذكرني الخبر برواية الكاتبة العراقية أنعام كجه كجي «الحفيدة الأمريكية» التي يصفها غلافها الأخير بأنها رواية من قلب الحدث. إنها قصة زينة بهنام، حفيدة العقيد الركن يوسف الساعور، الذي كان في أربعينيات القرن الماضي مساعداً لمدير التجنيد في الموصل. تركت زينة بلدها مراهقة وعادت إليه بعد الغزو الأمريكي مترجمة في صفوف جيش الاحتلال.
«لو كان الشجن رجلاً لما قتلته، بل لدعوت له بطول العمر». بهذه العبارة على لسان زينة تبدأ أنعام كجه جي روايتها مبحرة بنا في عوالم من الشجن الجميل المرتبط بالوطن عندما يضطر أبناؤه إلى مغادرته هرباً من ظلم يحيق بهم أو احتلال يطيح بكرامتهم. كان والد زينة، المذيع صباح بهنام، قد هرب بأسرته الصغيرة من عراق ما قبل الاحتلال بعد أن تعرض لتجربة قاسية من قبل المخابرات، التي اعتقلته وعذبته بسبب زلة لسان اعترض خلالها، بسلامة نية، على طول نشرة الأخبار. هربوا بجوازات سفر مزورة إلى الأردن، ثم انتظروا حتى جاء دورهم للسفر إلى الولايات المتحدة، حيث حصلوا على الجنسية الأمريكية.
بعد أن شاهدت زينة أعمدة الدخان تتصاعد من برجي التجارة العالمي في نيويورك يوم الحادي عشر من سبتمبر، تحركت داخلها مشاعر بصفتها مواطنة أمريكية. وبعد أسبوع من الحادث أعلنت «إف. بي. آي» عن حاجتها إلى مترجمين عرب. قرأت الإعلان وشعرت بمزيج من الهشاشة والحماسة. ماذا في إمكانها أن تقدم لمساعدة بلدها في هذه المحنة؟ بأي وسيلة تخدم مهاجرة مثلها، لا حول لها ولا قوة، دولة أمريكا العظمى؟
بسرعة، بدون تفكير كثير لا يغير شيئاً، ملأت طلباً على الموقع الإلكتروني الذي تم تحديده لتلقي الطلبات. لم تكن متهورة كما تقول، بل تعرف ما هي مقدمة عليه. وبعد أسبوع جاءها هاتف من واشنطن لكي تذهب للاختبار. نجحت في اختبار اللغة، وبقيت تنتظر أن يرسلوا في طلبها، لكنهم تأخروا. بدأت الحرب على العراق من دونها. سمعت خبر شنها من التلفزيون بعد أن حصل الرئيس على موافقة الكونغرس. من كان يعبأ بالأمم المتحدة؟ أي أمم وأي هراء؟! هكذا رددت زينة. ومع بدء العمليات أصبحوا جميعاً من عبدة التلفزيون، يعاقرون نشرات الأخبار ولا يشبعون، وإذا حدث وغفا أحدهم أمام الشاشة امتدت عشرات الأيدي لتهزه كي يستيقظ. من ينم يخسر التاريخ!
وأخيراً واتتها الفرصة للسفر إلى العراق. وعندما هبطت الطائرة العسكرية التي أقلتها مع مجموعة من المترجمين والجنود في بغداد، وجدوا في استقبالهم عاصفة رملية لم ترَ لها مثيلاً من قبل. «في تلك اللحظة، مع رائحة الطوز النفاذة، شممت العراق وكأن البلد كله تجمع في أنفي. وميزت عبقه الذي أعرف ولفح هوائه الساخن على الوجوه». قالت زينة وقررت أن تضع لهذا الفيلم عنواناً هو «العودة المتأخرة». تعود البطلة إلى الأرض التي غادرتها قبل خمس عشرة سنة، لا عودة زائرة مشتاقة إلى مسقط رأسها، بل جندية إلى أرض القتال. وفي بغداد التقت زينة جدتها المسكونة بالوطن الذي رفضت أن تغادره عندما قرر الجميع الهجرة. وعلى أرض العراق المحتل تتبدى الفروق بين شخصيتي الجدة المقيمة والحفيدة العائدة في مهمة.
بعد عودتها من العراق منهية تعاقدها مع الجيش الأمريكي، تصف زينة نفسها قائلة: «بائسة أنا. طاولة زينة مقلوبة مشروخة المرآة. أضحك من قشرة القلب بإيجاز وبلا كثير حبور، ضحكة بلا دسم، دايت، مثل مشروب غازي بلا طعم. أراني على الشاشة قديسة مخذولة تحمل حاجياتها في كيس خاكي على الظهر، ترتدي خوذة صلبة وبسطالاً مترباً وتسير وراء جنود مهزومين يرفعون شارات النصر».
«لم أجلب معي هدايا ولا تذكارات. لا أحتاج لما يذكرني بها. أقول مثل أبي: شُلّت يميني إذا نسيتك يا بغداد». بهذه العبارة أنهت زينة بهنام روايتها. تُرى كيف ينهي المترجمون رواياتهم؟
* كاتب وإعلامي إماراتي