يظن البعض أن «الباباراتزي» مدرسة صحافية. ويعتقد البعض من الناس أن «الباباراتزي» أسلوب حياة. ومنهم من يستحسن هذا الأسلوب، ومنهم من يمتعض وينفر منه. ولكن يبقى «الباباراتزي» عملية مطاردة (ما يعني هرب طرف من الآخر)، والاستقتال في الحصول على لقطة بشق الأنفس (أي أن طرفاً يبدي مقاومة لمنع الوصول إليه)، وتحصيل كمية من المال تتناسب طردياً ومقدار «البهارات» أو التوابل في الصورة.

توابل صور وفيديوهات المشاهير – سواء كانوا ساسة أو ممثلين أو رياضيين - تتلخص في كل ما هو ممنوع أو تتمنى الشخصية المشهورة عدم ظهوره في العلن. ضعف، دموع ألم، مظهر رديء، غضب، انهيار، لحظات حميمة، والقائمة طويلة ولكنها لا تخرج عن إطار اختراق الخصوصية والوجود في أماكن ممنوعة والتمتع بـ«جلد سميك» لا يؤثر فيها نهر أو ينال منه زجر.

ولأن خيطاً رفيعاً جداً يفصل بين العمل الصحافي الذي يقوم جزء كبير منه على كشف ما ينبغي كشفه من أمور تهم المصلحة العامة أو تنطوي على فساد أو تهدد الأمن وتكدر السلام، وبين عمل «الباباراتزي» الذي يقوم في الأساس على الحصول على أسرار شخصية ومواقف محرجة يود أصحابها أن يحتفظوا بها لأنفسهم، فإن الأمر كثيراً ما يختلط لدى البعض. فهناك من يظن أن التلصص صحافة والتجسس مهنة ودخول البيوت من النوافذ وأسطح العمارات المقابلة رغماً عن أصحابها حنكة ومهارة.

ولكن المهارة الحقيقية امتلاك القدرة الشخصية على التفرقة بين ما يجب أن تطلع عليه الجماهير باعتبار الصحافة عينها الساهرة على مصالحها وسلطتها الرابعة في الأمم الحديثة، وما لا يجب أن تدق أبوابه أصلاً وذلك حين يتحول التلصص إلى شهوة تشبعها كاميرات «الباباراتزي» وتعمل في الوقت نفسه على تأجيجها لضمان «أكل العيش».

ولكن «أكل العيش» لا يعني أبداً ضرب عرض الحائط بحد أدنى من احترام الخصوصية ومراعاة الأخلاق والسلوكيات. ونحمد الله كثيراً على أن «الباباراتزي» لم يكونوا يوماً سمة عربية. صحيح البعض ممن يحاولون التقاط صور أو تفاصيل رغماً عن أصحابها ولا تندرج أبداً تحت بند المصلحة العامة، ولكن المنظومة برمتها لم تستفحل على صعيد الصحافة العربية يوماً.

ولكن اليوم الذي استفحلت فيه كاميرات الهواتف المحمولة ومعه أثير الشبكة العنكبوتية ليصبحا في أيادي الملايين حدث عوار كبير في قواعد ما ينبغي وما لا ينبغي. هذه القواعد المنتهكة تكشف عن نفسها بين الحين والآخر: جنازة فنان، مرض ممثلة، محادثة خاصة بين سياسي وزوجته. بل وصل الأمر إلى درجة ترجيح كفة تصوير وقائع حادث مريع ووقوع ضحايا ومصابين بديلاً عن تقديم العون أو الابتعاد عن المكان لتيسير عمل قوات الإنقاذ.

وبدلاً من أن يقتصر السبق على صفحات الصحف وشاشات التلفزيون وأثير المواقع الخبرية، أصبح السبق للجميع. وساد المثل الشعبي «إللي سبق أكل النبق». وآكلو النبق باتوا بالملايين على «يوتيوب» و«فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» وغيرها. ووجد الصحافيون وملوك «الباباراتزي» القدماء أنفسهم في منافسة حميمة وغير متكافئة مهنياً أو أخلاقياً مع الملايين من حاملي الكاميرات.

وإذا كان العمل الصحافي تحكمه أو يفترض أن تحكمه قواعد مهنية، وله مرجعية يمكن مخاطبته من خلالها في حال أخطأ أو أخل بقواعد المهنة، فإن عمل «الصحافي المواطن» لا مرجعية له إلا في ما ندر. وأغلب الظن أن هذا التداخل بين الصحافي المحترف والصحافي المواطن، وتمتع الأخير بحرية شبه مطلقة لتقفي أثر من يحب وتصوير وتوثيق ما يجري حوله ونقل المنتج من هاتفه المحمول إلى أثير تتابعه مليارات البشر ألقى بظلال وخيمة على المحترف.

والملاحظ هذه الآونة وقوف العمل الصحافي في مفترق طرق عدة. فقد تغيرت رغبات المتلقين ولم تعد الجريدة الرصينة ذات الأخبار التي حدثت ليلة أمس والتحليلات التي استغرقت أصحابها أسابيع لكتابتها غاية منى القارئ. كما لم يعد الموضوع المعمق والمزود بالحجج والأدلة يحظى بالتقدير نفسه. عوامل السرعة والإثارة والتفرد فرضت نفسها، ليس فقط على الأجيال الشابة، ولكن عدوى الفيديو بدقائقه الثلاث والصورة بزواياها الحادة والكتابة بأدواتها المختلفة انتقلت إلى الكبار.

ولأن التطور حادث لا محالة، والتغيير سنة من سنن الحياة، والمواكبة مسؤولية كل عاقل بالغ يود البقاء على قيد الحياة، فإن التحديث حتمي والتعايش ضروري والاستشراف ميزة مضافة. وحسناً فعلت الدول التي لا تضع فقط قواعد وتسن قوانين لحماية الخصوصية، بل تدمج الأخلاق في التربية والسلوكيات في التعليم والإعلام والفن.

وللعلم، هناك من يتحدث عن حق «الحياة البرية» في الخصوصية بعيداً عن أعين وكاميرات «الباباراتزي» المتلصصة!