لعلّ أبرز المراجعات المطلوبة عربياً في هذه المرحلة ترتبط بمسألة ضعف الهويّة الوطنية الجامعة وغلبة الانتماءات الفئوية الأخرى. ففي هذه الظاهرة السائدة حالياً في أكثر من بلد عربي خلاصة لما هو قائم من مزيج سلبيات أخرى عديدة.
إنَّ ضعف الهويّة الوطنية لصالح هيمنة انتماءات ضيّقة يعني ضعفاً في البناء الداخلي. ويعني تسليماً من «المواطن» بأنَّ «الوطن» ليس لكلِّ المواطنين، وبأنّ «الوطن» هو ساحة صراع على مغانم فيه، لذلك يأخذ الانتماء إلى طائفة أو مذهب أو فئة بُعداً أكثر حصانة وقوّة من الانتماء الوطني الواحد، كما يصبح الانتماء الفئوي وسيلة يتمّ استخدامها للحفاظ على مكاسب سياسية أو شخصية أو لانتزاعها من أيدي الآخرين.
كذلك، فإنّ ضعف الهويّة الوطنية قد يكون هو المدخل للتدخّل الخارجي، بل وللاحتلال أحياناً، حيث تتحوّل أولوية الانتماءات الضيّقة إلى مبرّرات تقتضي التعامل مع أي جهة خارجية من أجل مواجهة الانتماءات الأخرى في الوطن الواحد!
إنّ ضعف الهويّة الوطنية المشتركة هو تعبيرٌ أيضاً عن فهمٍ خاطئ للانتماءات الأخرى. فالاعتقاد بمذاهب دينية مختلفة، أو الاعتزاز بأصول إثنية أو اجتماعية، هو ظاهرة طبيعية وصحيّة في مجتمعات تقوم على التعدّدية وعلى الاختلاف القائم في البشر والطبيعة. لكن تحوّل هذا الاختلاف إلى خلاف عنفي وصراعات سياسية دموية يعني تناقضاً وتصادماً مع الحكمة في الاختلاف والتعدّد، فيكون المعيار هو محاسبة الآخرين على ما وُلدوا به وعليه، وليس على أعمالهم وأفكارهم. وهذا بحدِّ ذاته مخالف للشرائع الدينية والدنيوية كلّها.
إنّ تفكّك مفهوم «الهُويّة الوطنية» يؤدي إلى طغيان التسميات الطائفية والمذهبية والإثنية على المجتمعات العربية. وفي هذا الأمر تكمن مخاطر الانفجار الداخلي في كلّ بلدٍ عربي، وحينما تضعف الهُويّة العربية، فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تولِّد حروباً أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معاً.
مشكلتنا نحن العرب أنّنا نعاني، لحوالي قرنٍ من الزمن، من صراعاتٍ بين هُويّات مختلفة، ومن عدم وضوح أو فهم للعلاقة بين هذه الهويّات المتعدّدة أصلاً: الهوية القانونية (أي الأوطان الحالية)، الهوية الثقافية العربية المشتركة في الماضي والحاضر، والهوية الدينية وما يتفرع عنها من تعدد طائفي ومذهبي وفقهي.
أيضاً، فإنّ مشكلة «الهويّة العربية» من الناحية الموضوعية نابعة من هذا الانفصام الحاصل بين وجود ثقافة عربية واحدة وعدم وجود دولة عربية واحدة. فشعوب العالم يشترك البعض منها في حضارات، لكن هناك خصوصيات ثقافية لكل شعب، حتّى لو اشترك مع شعوبٍ أخرى في حضارة واحدة، كما هو حال الحضارة الغربية الآن التي تنضوي تحت مظلّتها ثقافاتٌ متعدّدة. فتلك طبيعة قانون التطوّر الاجتماعي الإنساني الذي انتقل بالنّاس إلى مرحلة الأوطان والشعوب والأمم.
إنّ معظم شعوب العالم اليوم تكوّنت دوله على أساس خصوصيات ثقافية، بينما الثقافة العربية لا يُعبّر عنها بعدُ في دولةٍ واحدة. ونجد الآن داخل الجسم العربي من يُطالب بدول لثقافات إثنية (كحالة الأكراد والأمازيغ، وكما جرى في جنوب السودان)، بينما الثقافة العربية الأم نفسها لا تتمتّع بحالة «الدولة الواحدة».
إنّ الشخص العربي هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية أو لأصول ثقافية عربية. فالهويّة العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي، ولا تخضع لمتغيّرات الظروف السياسية.
إنّ الانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة من حيث تكامل عناصر الأمَّة فيها: لغة وثقافة واحدة لشعوب ذات تاريخ مشترك على أرض مشتركة ولها مصائر ومصالح مشتركة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكلٍ من أشكال التكامل أو الاتّحاد بين بلدانها.
إنّ الهويّة العربية هي دائرة تتّسع، في تعريفها لـ«العربي»، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية أو الإثنية. إنّ العروبة هي تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتّى في دائرة العالم الإسلامي.
إنّ «الهويّة الثقافية العربية» كانت موجودةً كلغة وثقافة قبل وجود الدعوة الإسلامية، لكنّها كانت محصورةً بالقبائل العربية وبمواقع جغرافية محدّدة.. بينما العروبة - كهويّة انتماء حضاري ثقافي- بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة. فهكذا أصبحت «العروبة الحضارية» هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب. ودخل في هذا التعريف معظم من هم عربٌ الآن ولم يأتوا من أصول عربية من حيث الدم أو العرق أو النسب.
وصحيحٌ أنّ هناك خصوصياتٍ يتّصف بها كلُّ بلد عربي، لكن هناك أيضاً أزمات يشترك فيها كل العرب أو تنعكس آثارها على عموم أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل وأزمات تؤثّر سلباً على الخصوصيات الوطنية وعلى مصائر شعوبها. لذلك هناك حاجةٌ ماسَّة الآن للانطلاق من رؤية عربية مشتركة لما يحدث في الأمّة العربية وعدم الانشداد فقط للهموم الخاصّة بكلّ بلدٍ عربي، لكن «الرؤية العربية المشتركة» تتطلّب أولاً التسليم بوجود «هُويّة عربية» مشتركة وبحسم المفاهيم الخاصة بها وبعلاقتها مع كل من «الهُويتين» الدينية والوطنية.