حقيقة ما جرى ويجري في أفغانستان منذ الانسحاب الأمريكي المباغت ستبقى مقتصرة على تكهنات وتحليلات. أما المعلومات المؤكدة والحقائق الفعلية التي أدت إلى ما وصل إليه الحال في أفغانستان اليوم، بعد مرور عقدين كاملين على أحداث 11 سبتمبر 2001 الهادرة، فهي غير متاحة. المتاح فقط صور وتغطيات لطائرات أجلت أفراداً، وأخرى لم تتسع للمزيد، وثالثة تقدم مقبلات مختصرة تدغدغ حب الاستطلاع الذي يعتري ملايين البشر حول العالم. فهناك مشاهد لقوات من حركة طالبان تستعرض قوة عتادها التي خلفها الأمريكيون، وأخرى استعراضات أزياء لأبناء الحركة من الجيل الجديد، ناهيك عن الأخبار المتواترة عن بدء مسيرة الردة لمكتسبات الإناث هناك.

وفي انتظار ما ستسفر عنه الأيام أو الأسابيع وربما الأشهر والسنوات القليلة المقبلة من كشف لجانب من حقيقة ما جرى، فإن الواضح أن كلمتي «إسلام» (أو مسلمين أو إسلاميين أو إسلامية) و«طالبان» ستترددان بكثرة على أثير الإعلام التقليدي ومعه منصات التواصل الاجتماعي بأنواعها. وأخشى ما أخشاه أن تعود الحركة، التي يبدو أن هناك قبولاً أو اتفاقاً ضمنياً على قبول تصدرها الساحة بشكل أو بآخر، لتطغى أخبارها ويتم التعامل مع أخبارها وقراراتها باعتبارها «الإسلام».

الأمريكي الذي لا يعرف الكثير عما يجري خارج حدود ولايته، والألماني القلق من زيادة الضرائب، والدنماركي المنشغل بمتابعة المدرسة الجديدة التي فتحت أبوابها دون فصول أو مقاعد دراسية، والياباني المتابع لقرار مد طوارئ الوباء، والفرنسي الباكي على الأسطورة الراحل جان بول بلموندو، وغيرهم في مشارق الأرض ومغاربها من مليارات البشر موعودون باستقبال أخبار وتقارير وتغطيات يومية تحوي الكلمتين: إسلام بتصريفاتها المختلفة، وطالبان. وإذا كان جزء من العالم غفر أو نسي أو تظاهر بأنه نسي أن حركة طالبان كانت مصنفة تحت بند «الأكثر إرهاباً» حتى وقت قريب، فإن الوقت الراهن يخبرنا أن العالم بصدد تكوين جديد وصناعة حديثة للصورة الذهنية الخاصة بالإسلام.. لماذا؟ لأن كل ما يرتبط بحركة «طالبان»، مهما قدمت من وعود باحترام الحقوق ومراعاة المساواة وبدء عهد جديد دون إراقة دماء، سيكون مصحوباً بكلمة إسلام أو إسلامي.

شئنا أو أبينا، حركة طالبان، في هيئتها الحديثة أو تاريخها المعروف، تستدعي لدى غير المسلمين صورة ذهنية عن الإسلام. والغالبية في دول العالم شرقه وغربه لا تملك رفاهية الوقت والجهد لتبحث وتدقق وتعرف إن كانت هذه الحركة تمثل الإسلام بالفعل أم أنها تمثل تفسيراً أو تصوراً عن الإسلام. ستُقرَأ الأخبار وسيمر شريط «الخبر العاجل»، وسيتحدث الضيوف والخبراء عن «أفغانستان تحت الحكم الإسلامي العائد»، وستتعرض التحليلات والشروحات لـ«الدولة الإسلامية»، و«الحركة الإسلامية»، و«الحكومة الإسلامية»، و«النساء اللاتي يعشن في كنف المنظومة الإسلامية»، وستتنامى الصورة المرسومة عن الإسلام بناءً على ما يجري في أفغانستان، وسيتفاقم بالون «صورة الإسلام» المرتكز على تحركات طالبان في أرجاء الأرض.

وأغلب الظن أن شكلاً وليداً من أشكال الإسلاموفوبيا سيخرج إلى النور بناءً على ما يخرج من أفغانستان. فحتى الأمس القريب، ارتبط الإسلام لدى البعض بجماعة الإخوان المسلمين وممارساتها العرجاء في دول عربية عدة، أبرزها مصر وتونس والمغرب، ولم تخلُ الساحة من جماعات إسلامية مماثلة، لكنها تختلف على مقياس ريختر لقياس درجات العنف واعتناق مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة». وحتى أول من أمس، كان العالم مشدوهاً بداعش وما تمثله وما تقترفه في ربوع الأرض من عنف وقتل وتفجير وتفخيخ تحت مسمى إعلاء الإسلام.

فماذا نحن فاعلون؟! القول بأن هذا أو ذاك لا يمثل الإسلام لم يعد ولم يكن يوماً تحركاً كافياً، كما أن اعتبار ما تفعله حركة هنا أو جماعة هناك باسم الدين، والدين منها برئ، أمر لا يعنينا ليس بالقرار الحكيم. واعتناق مبدأ الدفاع عن كل ما يقترفه البعض باسم الدين وكأننا نبرئ ساحتنا ليس أيضاً الحل.

لقد بدأت بالفعل دعوات لتبادر الدول ذات الأغلبية السكانية المسلمة للتأكيد على أن ما يجري في أفغانستان على يد طالبان لا يمثل الإسلام. وخرج البعض مصدراً بيانات صحفية وعنكبوتية أشبه بإخلاء المسؤولية وتبييض السمعة حتى لا ترتبط في الأذهان بما سيرد من أفغانستان على يد طالبان.

طالبان حركة ترمز إلى جانب مما لحق بالإسلام على يد المسلمين في العصور الحديثة. والانتباه لتلك الحركات والجماعات ضروري إن أردنا تصحيح الأوضاع. وتقديم صورة حقيقية بديلة يمكن وصفها بالإسلامية الحديثة خير علاج، وهو علاج من الجذور. عدم التعارض أبداً بين المسلم من جهة، والعلم، والبحث، والتطوير، والفنون، والثقافة، والرياضة، والإبداع، والتفكير، والنقد من جهة أخرى هو الصورة الحقيقية البديلة التي يجب أن تطرح على الملأ دون تردد أو مراجعة أو انتظار لتقع المصيبة حتى نهرع جميعاً مؤكدين في نفس واحد أن الجاني لا يمثل الإسلام.