تنتمي النزعة الراديكالية إلى ذلك النمط من التفكير والسلوك، الذي مقصوده تغيير العالم تغييراً جذرياً من دون النظر إلى طبيعة هذا التغيير، والكلمة بأصلها اليوناني اشتقت من الجذر، ولهذا ترجمها العرب بالجذرية، غير أن كلمة راديكالية صارت جزءاً من كلمات المعجم العربي المعربة.
ولأن المصطلح يشير إلى تغيير جذري للواقع فإن مفكري السياسة قد ربطوه بمصطلح الثورية، لكن الراديكالية ليست هي الثورة، فكل ثورة هي راديكالية، ولكن ليس كل راديكالية هي ثورة، حيث إن الثورة في العلم السياسي هي صناعة عالم جديد متقدم على العالم القديم، أو تطور جذري في العلوم، فنحن نستخدم مصطلحات الثورة العلمية، ثورة الاتصالات وهكذا.
فيما النزعة الراديكالية على أنواع ويمكن تصنيفها، باختصار، إلى نوعين: الراديكالية الإيجابية من جهة، والراديكالية السلبية، من جهة ثانية،
أما الإيجابية فهي تلك التي تنطوي على روح التقدم المرتبط بالأهداف الإنسانية، فالانتقال من الوعي الأسطوري إلى الوعي العلمي انتقال راديكالي، ولهذا فالثورة العلمية هي نمط من الراديكالية، التي أسست لكل ما نراه من عالم التقنية.
وتظهر الراديكالية في الوعي والسلوك المطابق للوعي، فانتقال الوعي إلى نظرية العقد الاجتماعي انتقال جذري في الوعي، وتحقيق العقد الاجتماعي في الواقع انتقال، هو الآخر، جذري في الواقع.
بهذا المعنى والجذرية الإيجابية هي قطيعة معرفية وواقعية مع عالم قديم، وهذا نراه في السياسة، كما في الاقتصاد، في الثقافة الروحية، كما في الثقافة العملية، الجذرية هنا هي الجديد المتجاوز على نحو أرقى.
أما الراديكالية السلبية فهي كل فكر وسلوك متطرف يسعى لتغيير الواقع بالعودة إلى ماضٍ زال، فالذي انقضى ومضى عالم لا يعود، فجميع الراديكاليات السلبية من هذا النوع راديكاليات خطيرة، خطيرة لأنها تدمر الواقع بما ينطوي عليه من إمكانات نحو التجديد، فاستعادة الإمامة والخلافة واستدعاؤها من الماضي، واستخدام العنف في سبيل ذلك، ليس سوى نوع من الراديكاليات المدمرة والخطيرة، مدمرة لحياة الناس وخطيرة على منطق التاريخ بوصفه انتقالاً متجدداً نحو الأعلى.
والعنف المرتبط بالراديكاليات الخطيرة عنف تدمير مطلق وليس قوة بناء، وآية ذلك لأن أهدافه مستحيلة التحقق، أهداف غير مرتبطة بعلاقة الإمكانية والواقع والإرادة الواقعية، التي تنقل الإمكانية إلى واقع،
فالماضي كان مجموعة من الإمكانات التي تحققت وانتهت، وبالتالي فإن استدعاء إمكانية من الماضي وهم عقلي بامتياز، وهنا تبرز خطورة الراديكاليات القائمة على الوهم، فما من إرادة قادرة على تكسير رأس منطق تطور الواقع أبداً.
وسائلٍ يسأل ما شأن الإصلاح في وظيفته الاجتماعية فالاقتصادية والسياسية، هل هناك تناقض بين الإصلاحية والراديكالية الإيجابية؟
الجواب: إن الإصلاح عملية مطلوبة دائماً، إنه تلاؤم جديد مع متغيرات واقعية دون قطيعة مطلقة، كإصلاح القوانين مثلاً، والإصلاح الاقتصادي، والإصلاح المؤسساتي، ولكن إذا أصبحت واقعة ماضية عقبة أمام التطور فإنه لا ينفع معها الإصلاح، فلا بد من بديل عقلي وواقعي لها.
أردنا في عرضنا السابق أن نبرز أهمية الوعي في صناعة العالم، فلا وعي بقادر على صناعة العالم إن كان الوعي بمنطق راديكالي أو بمنطق إصلاحي إلا إذا كان ثمرة فهم وتفسير منطقي علمي يستند إلى ما أسميه الواقعية العقلية.
وأعداء الواقعية العقلية صنفان: صنف يريد أن يؤبد الواقع كما هو دون تغيير، وهذا أمر مستحيل، وصنف يريد أن يعيد التاريخ إلى الوراء، وهذا الأمر هو الآخر ضرب من المستحيل، وكلا الصنفين خطر وشر مستطير.
ومن هنا فإن الخطاب الذي يتصدى لتغيير العالم يجب أن يكون مرتبطاً بالواقعية العقلية كما حددناها،
فالأوهام مريحة للكسالى إن هم بقوا في أوهامهم من ادون فعل، لكنها تصبح جرائم إن هي تحولت إلى إرادة عنفية وفعل على الأرض.