استيقظ العالم بنهاية عام 2019 وبداية 2020 على فاجعة جائحة كورونا التي ضربت اقتصاد دول كبرى وأثرت سلباً على كافة ميادين الحياة ومنها الالتزامات التعاقدية سواء بين الشركات أو الأشخاص، واختلفت الآراء الفقهية في تكييف تلك الجائحة وهل تعد قوة قاهرة أم ظرفاً طارئاً؟ ومدى أثرها في إبرام العقود والاتفاقيات سواء في الجانب المصرفي أو التجاري أو في نطاق التوريد والمقاولات وغير ذلك من العلاقات التعاقدية.
الأصل أن العقد شريعة المتعاقدين فلا يجوز نقضه أو تعديله إلا باتفاق الطرفين أو وفقاً للأسباب التي يقررها القانون، ويجب تنفيذ العقد طبقاً لما اشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية، وعليه فإن حسن النية يسود في إنشاء العقد وتفسيره وفي تنفيذه والتزام المتعاقد طبقاً لحسن النية هو التزام عقدي، فإذا حاد المتعاقد يكون مسؤولاً على أساس المسؤولية العقدية ومراعاته حسن النية في التنفيذ إلا أن ذلك المبدأ يرد عليه استثناء يتمثل في توافر الظروف الطارئة والقوة القاهرة.
ولقد أكد على ذلك المشرع الإماراتي فنص بالمادة (249) من قانون المعاملات المدنية على أنه «إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلاً صار مرهقاً للمدين بحيث يهدد بخسارة فادحة جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول إن اقتضت العدالة ذلك ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك، كما نص في المادة (273) من ذات القانون على أن في العقود الملزمة للجانبين إذا طرأت قوة قاهرة تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً انقضى معه الالتزام المقابل له وانفسخ العقد من تلقاء نفسه، وإذا كانت الاستحالة جزئية انقضى ما يقابل الجزء المستحيل وينطبق هذا الحكم على الاستحالة الوقتية في العقود المستمرة وفي هاتين الحالتين يجوز للدائن فسخ العقد بشرط علم المدين.
تفترض نظرية الظروف الطارئة إذاً حالة عقد لم يكن واجب النفاذ حال انعقاده وإنما يتراخى تنفيذه إلى أجل، فيختل التوازن في هذا العقد بتغير الظروف عند مرحلة التنفيذ عما كانت عليه في مرحلة الانعقاد، وذلك بتقلب الظروف الاقتصادية فجأة نتيجة حادث لم يكن في الحسبان، ففي عقد التوريد مثلاً لو ارتفعت الأسعار لظرف الحرب وأصبح السعر الذي يحصل به المدين على السلعة الملزم بتوريدها أكبر من السعر الذي يبيع به وفق هذا العقد بحيث يصبح تنفيذ المدين لالتزاماته في عقد التوريد يهدده بخسارة فادحة تخرج عن الحد المألوف في العرف التجاري، وهو ما عبر عنه الفقه باختلال التوازن الاقتصادي للعقد إخلالاً خطيراً.
وعليه يتمثل الظرف الطارئ في حادث استثنائي غير مألوف يتسم بالعمومية أي لا يكون خاصاً بالمدين وحده ويجب أن يكون ذلك الحادث غير متوقع الحدوث وقت إبرام العقد، فلو أمكن دفعه فلا سبيل لإعمال مبادئ نظرية الظروف الطارئة فالحكمة منها هي عنصر المفاجأة والغبن اللاحق لإبرام العقد، لأن المتعاقد إن كان بإمكانه توقع الحادث عند التعاقد يسقط حقه في طلب تعديل الالتزام استناداً إليه لأنه يكون قد ارتضى الالتزام بوجود هذا الحادث، وأخيراً يشترط أن يؤدي ذلك الحادث لجعل تنفيذ الالتزام مرهقاً دون أن يصل الأمر إلى حد استحالة تنفيذه.
أما فيما يتعلق بالقوة القاهرة فيمكن القول بأنها هي تعذر تنفيذ العقد بعد إبرامه دون دخل لإرادة المدين وذلك لسبب أجنبي خارج عن إرادة المدين لكن يشترط في السبب الأجنبي الذي أدى إلى استحالة التنفيذ أن يكون غير متوقع كما يجب أن يستحيل دفعه وفي مجال العقود الدولية تحتل المبادلات التجارية الدولية موقعاً مهماً في النشاط الاقتصادي لكل دولة وقد يتعرض تنفيذ العقد الدولي تبعاً لخصوصياته إلى مخاطر وصعوبات تحول دون تنفيذه بالشروط التي وردت في العقد، فهي قد تجعل أحياناً تنفيذ العقد مستحيلاً بصورة نهائية أو تكون استحالة التنفيذ حادثاً مؤقتاً، وفي الحالتين يصبح عدم التنفيذ ضاراً بحقوق الدائن مما يؤدي إلى الإخلال بقاعدة التوازن العقدي بين الطرفين وتستمد القوة القاهرة أساسها من التشريع الوطني وكذلك من قضاء التحكيم بالنسبة لعقود التجارة الدولية وهذا يعني أنها تطبق بشكل تلقائي دون الحاجة إلى اتفاق صريح بين الأطراف فالمحكمون يذهبون إلى المفهوم التقليدي للقوة القاهرة إذا لم يتفق الأطراف على مفهوم آخر.
إن كلتا النظريتين هما خروج عن مبدأ سلطان الإرادة ومبدأ «العقد شريعة المتعاقدين»، وإرساء لعرف أخلاقي مثبت قانوناً مفاده أنه «لا تكليف بمستحيل» وهذا الخروج يكون لأسباب أثرت على القدرة على تنفيذ الالتزام، ويُرجع في تقديرها إلى السلطة التقديرية لقاضي الموضوع بناء على الوقائع والأحداث ومعطيات الالتزام بين الأطراف خصوصاً أن هناك قطاعات شهدت انتعاشاً في فترة أزمة كورونا، ومنها التجارة الإلكترونية والرقمية وتجارة السلع والأغذية والخدمات الحيوية للمواطن والتجارة في المستلزمات الطبية وأدوات التعقيم، في مقابل توقف شبه تام في قطاعات أخرى.
ونظراً لأن جائحة كورونا هي حادث استثنائي عام شمل كل قطاعات المجتمع وغير متوقع ولا يمكن درء نتائجه، ولم تمتد آثاره لبعض القطاعات أو الأفراد أو النشاطات لحد القوة القاهرة والتي يمكن أن يتمسك بها صاحب الشأن لاعتبار العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه، فإن المشرع وضع معياراً قانونياً آخر لتلك القطاعات وهو إذا أصبح الالتزام التعاقدي مستحيلاً أو مرهقاً للمدين بفعل جائحة كورونا وآثارها التي خلفتها على القطاعات العاملة في المجتمع بحيث تهدد استمرار العقد بالشروط ذاتها بخسارة فادحة جاز لأحد الطرفين أن يلجأ إلى القضاء بطلب النزول بالتزاماته إلى الحد المعقول بغرض الموازنة بين مصلحة طرفي العقد للتخفيف من عبء هذا الالتزام، وتكون هذه الموازنة هي إنهاء العقد أو زيادة القيمة السعرية للمتعاقد أو إعطاء فترة زمنية للسماح، أو أي من الظروف التي من الممكن أن يستند إليها القاضي في قراره من أجل تحقيق الموازنة بين مصلحة الطرفين في الظروف الاستثنائية العامة المرتبطة بهذا الفيروس.