تعود كلمة التقليد إلى الفعل قلد: اتبع أحدٌ أحداً في القول والسلوك ومن دون حجة، وقلد فلان فلاناً حاكاه. وجُمعت كلمة تقليد على تقاليد.وأنا هنا لا أتحدث عن التقاليد بالمعنى الاجتماعي ذات الوظيفة المعشرية بوصفها عادات اجتماعية، كتقاليد الأفراح والأتراح والأعياد، وآداب الطعام وطرائق الطهي والأزياء الوطنية وطرائق التعبير عن المودة والصداقة، بل أتحدث عمن يكرهون الجديد ويذمونه بحجة معارضته للقديم التقليدي. والحياة، كما نعلم تجديد دائم، والجديد يصبح قديماً وهكذا.
وتتميز الذهنية المحافظة بالتمسك بما كان عليه السلف، بحجة أنه الأفضل. وهذه الحال تمر بها جميع المجتمعات بلا استثناء، ولكن سيرورة التاريخ غالباً ما تتجاوز هذه الذهنية.
وأسوأ أنواع التقليد ذلك التقليد المتعلق بالتفكير والأفكار، وقد ذم الأمير عبدالقادر الجزائري في كتابه «ذكرى العاقل وتنبيه الغافل التقليد بقوله: إن دابة تقلد خير من إنسان مقلد». وكان يقصد أولئك الذين يجمدون عن فكرة ما ولَم يعد باستطاعتهم أن يتخلصوا منها رغم عدم صلاحها للتفكير بتغير الأحوال.
ويسود قول خطأ كما أشار الجزائري أيضاً بأن الأُول لم يتركوا للآخرين شيئاً إلا قالوه. ونضيف إن هذه الذهنية التي تؤمن بقول كهذا فإنما تسد الطريق على من يصنعون الحياة وفق الضرورات والأحوال، فالعقل لا يكف عن التفكير بالحاضر وبما هو آتٍ.
فالقول إن تقاليدنا لا تسمح بعمل المرأة مثلاً تقليد أعمى ومضر بالمرأة والرجل معاً وبالمجتمع ككل.
ولعمري إن المقلدين كائنات عادية خطيرة إذا ما عدّت التقليد سنة لها ولغيرها، وصارت ذات سلطة قامعة.
فإذا كان التقليد مذموماً بعامة، ويدل على ضعف في الشخصية الإنسانية، فإنه - أي التقليد - يغدو أمراً خطيراً إذا تحول إلى نظرة إلى الدنيا، ورفع السيف في وجه المبدعين. والتقليد من حيث هو طريقة في التفكير، وموقف من العالم يقف ضد الجديد المبدع والمتجاوز، ويعرقله أحياناً، كما يقضي على الإمكانات ويميتها، والإمكانية التي تموت قد لا تعود أبداً.
ونحن نجد التقليد حتى في عالم الأدب، فموقف النقاد والشعراء الرافض للقصيدة الحديثة - قصيدة التفعيلة بحجة أن هذا الأمر مناقض لقواعد الشعر العربي - موقف مدافع عن التقليد.
واستمرار شاعر في كتابة شعر مدح وذم وفخر على طريقة المتنبي مثلاً لهو تقليد أعمى وعودة إلى محاكاة الأقدمين من المبدعين.
والوقوف عند أحكام قديمة التزاماً بتقليد الأسلاف موقف ضار بالحياة، لأن الحياة صيرورة وتغير.
ومن أسوأ أنماط التقليد تقليد المغلوب للغالب في الظاهر، والتشبه به مع الاحتفاظ بوعيه القديم ولعمري أن هذا النمط من التقليد ليس سوى صورة كاريكاتورية للتقليد الأعمى الأجوف. وهذا ما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.
وهذا يختلف عن التأثر بالجديد الذي يأتي ممن يوافقوننا في الملة أو يخالفوننا كما أشار فيلسوفنا العربي الأشهر ابن رشد.
أما أن يتقمص شخص سلوك شخص آخر وتحويل ذاته إلى صورة طبق الأصل عنه، مدعاة للضحك والسخرية فهذه صفة من صفات الشخصية الضعيفة التي لا ترى نفسها إلا في التشبه.
ويجب التمييز بين النزعة نحو التقليد والنكوص إلى الماضي لاستحضاره في الحاضر وإعادته إلى الحياة، فالجماعات الأصولية والميليشيات العنيفة التي تتوسل القتل والتدمير لتحقيق أوهامها ليس هذا تقليداً، بل هو مرض نفسي واجتماعي تعانيه هذه الجماعات، وآثاره خطيرة على الحياة برمتها.
فالحياة اجتهاد دائم، وما الاجتهاد إلا تجاوز القديم. وسخرية أبي نواس ما زالت صالحة حتى الآن حين عبر عنها بقوله: قُلْ لمنْ يبْكي على رَسْمٍ دَرَسْ، واقـفـاً، مـا ضَرّ لو كـان جلــسْ.
المقلدون أطلال ولكن لا تستحق أن نقف عليها ونرثيها أو نذرف الدموع حنيناً إليها.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني