غالباً ما أضع بعين الاعتبار العوامل المساهمة التي ساعدت على نمو دبي عند تحليل مسيرة تطور هذه الإمارة على مدار العقدين الماضيين، ليس فقط كمركز للتجارة، بل أيضاً كوجهة للاستثمار والسياحة والرياضة وفن الطهي والثقافة أيضاً. ويمكنني أن أتكهّن، على أحسن تقدير، أن هذا التطور لم يكن وليد عامل واحد فحسب، بل نتاج مجموعة من الركائز تتجسد في منظومة قيادة محكَمة وفهم واضح لنجاحات والإخفاقات في الاقتصادات الأخرى ومستوى تنفيذي يتسم بالمرونة والحيوية أسهمَ في دمج التقنيات ذات الجدوى الثابتة رهناً بما تقتضيه الضرورة. تتشابه مسيرة التطور هذه في كثير من أوجهها مع قصة أكثر الكيانات التجارية نجاحاً، وهو شيء تدأب إدارة مركز دبي للسلع المتعددة باستمرار على دراسته عند تقييم الشركات التي يعتزم العمل معها حينما يتعلق الأمر بتوسعة نطاق القيمة التي نحققها لمجتمعنا المتنامي، بالتوازي مع الحرص على زيادة معدل اجتذاب المنطقة الحرة للشركات التي تنشد مكاناً آمناً يسهل الوصول إليه من أرجاء العالم كافة لمزاولة أنشطتها التجارية فيه. 

كمركز للتجارة، تجسد المقاصة واحداً من العوامل التيسيرية الرئيسة الضرورية لأنشطتنا اليومية؛ ومع أن المهمة ذاتها ليست معقدة بالضرورة، إلا أن تطور صناعة المقاصة قد قطع شوطاً طويلاً منذ نشأتها قبل قرابة ثلاثمائة عام مضت. أمّا اليوم، فإن أدق توصيف يمكن أن يُطلَق على كبرى غرف المقاصة أنها مراكز تعتمد على التكنولوجيا نقيضاً لوصفها بأنها مؤسسات مالية، خصوصاً منذ أن بدأت السوق بحدودها الأوسع نطاقاً بالتحوّل صوب الاعتماد على الحلول القائمة على التقنيات الرقمية في أوائل الألفية الثانية. 

ومع أن هذا القطاع لا يضم أسماء معروفة من قبيل جيف بيزوس وإيلون ماسك، إلا أن شخصية مثل جيف سبريكر، وهو رائد أعمال في الأسواق المالية العالمية، يضاهي في تأثيره، بلا شك، تأثير أيٍ من هذين الرجلين في مجالات أعمالهما. فبعد عمله على تطوير مؤسسة إنتركونتيننتال إكستشينج (ICE) من بدايات متواضعة في عام 1996، أصبحت قيمتها السوقية نحو 66 مليار دولار أمريكي وتضم عشر بورصات، على رأسها بورصة نيويورك (NYSE) وست غرف مقاصة. 

بفضل المؤهل التعليمي الذي يحمله في تخصص الهندسة، فإن النهج الذي يسلكه سبريكر لتوسيع إمبراطوريته عن طريق الاستحواذ على البورصات وعوامل تمكين البنية التحتية قد أتاح له تكوين رؤية موضوعية «[للاحتفاء] بالخصائص المحمودة لهذه الأسواق، بالتوازي مع المضي في إصلاح المعيب منها»، وهي فلسفة يتشاركها مع مبتكر المقاصة، فيليب بورلاماشي.

كان فيليب بورلاماشي، المولود في بلدة سيدا الفرنسية عام 1575 وذو الأصول الإيطالية الذي تعود جذوره للمنفيين من سلالة فرانسيسكو بورلاماشي، أبرز أبناء مقاطعة لوكا الإيطالية، معروفاً على نطاق واسع بأمرين: الدور الذي شغله وسيط مالي لملك إنجلترا تشارلز الأول وكونه صاحب أول مقترح موثّق لإنشاء بنك مقاصة وطني. وبفضل كونه مقرضاً رئيسياً للحكومة وممولاً لشركة الهند الشرقية وممثلاً لتجار مدينة لندن، أدرك بورلاماشي باكراً أهمية السيولة والموثوقية حينما كان الأمر يتعلق بتسوية المعاملات التجارية وابتكر مفهوم بنك المقاصة الذي يتجسد دوره في الوساطة التي تمكّنه من ضمان المعاملات التجارية لحماية كل من المشتري والبائع، إلى جانب وظيفته في حفظ السجلات المالية بصفة دائمة. ومن سوء حظ بورلاماشي أنه أفلس في عام 1633 بسبب الملك تشارلز الذي عجز عن دفع قرض بقيمة 70.000 جنيه استرليني مُنِح له إبان الحرب الأنجلو- فرنسية بين عامي 1627 و1629؛ إلا أن إرثه قد ترسّخ في نهاية المطاف بإنشاء بنك إنجلترا في عام 1694، الذي خُصص ليكون أول غرفة مقاصة في العالم، أي بعد خمسين عاماً على وجه الدقة من وفاة بورلاماشي.

منذ ذلك الحين، بدأت غرف المقاصة المستقلة العمل في مراكز التجارة الأوروبية، خصوصاً المعنية منها بتجارة السلع الزراعية مثل الحبوب والقهوة، غير أن الخطوة التالية باتجاه إنشاء بنية أكثر تطوراً حدثت في مجلس شيكاغو للتجارة (CBOT)، حيث بدأت ضغوطات السوق توجّه وتقود وتدفع تطور ضوابط المخاطر التي لا تختلف كثيراً عن تلك المعمول بها في يومنا هذا. بحسب الحاكم راندال إس كروسزنر، فإن مجلس شيكاغو للتجارة «أدرك أهمية وضع حوافز للالتزام بقواعده، وعلى رأسها الالتزامات التعاقدية لأطراف العقود المتداولة في البورصة. كان الحافز الأساسي مبدئياً هو التهديد بمنع العضو الذي تخلف عن الوفاء بالتزاماته من دخول حلقة البورصة للتداول. ولا شك أن هذا الإجراء كان حافزاً قوياً للأعضاء القادرين على الوفاء بالتزاماتهم، ولكن ليس للأعضاء المعسرين الذين ربما لم يكترثوا كثيراً لخسارة امتيازات التداول. 

أدرك مجلس شيكاغو للتجارة بحلول عام 1873 مدى أهمية تقييم الملاءة المالية لأعضائه وتبنى قراراً ينص على وجوب أن يفتح أي عضو كانت ملاءته المالية محل شك حساباته المالية للفحص ويمكن أن يكون عرضة للاستبعاد من عضوية المجلس في حال رفضه ذلك. وفي الوقت ذاته تقريباً، وضعت البورصة متطلبات للهامش الأولي ولهامش التفاوت للعقود المتداولة في البورصة وأقرّت حدوداً زمنية صارمة لنشر ودائع الهامش. وكان الامتناع عن نشر ودائع الهامش يُعدُّ وجهاً من أوجه القصور في عقود العضو».

بحلول عام 1925، أنشأت كل من نيويورك وشيكاغو غرف مقاصة مركزية مخصصة أصبحت الطرف الثاني لكل المعاملات في البورصات المعنية. ومنذ ذلك الحين لم يطرأ أي تغيير نسبي على المقاصة حتى وصول مشتقات مالية موازية أكثر تطوراً تمخضت عنها الحاجة إلى تطوير تقنيات إدارة المخاطر، أبرزها ما وُضِعَ بمقتضى قانون دود فرانك الصادر عام 2010 للتحوط ضد حالات التخلف عن السداد وفي تتابع سريع نسبياً، بزغ فجر بداية العصر الرقمي وظهرت إنتركونتيننتال إكستشينج.

أنشأ سبريكر إنتركونتيننتال إكستشينج في عام 1997 إثر شرائه شركة تكنولوجيا ناشئة بمبلغ دولار أمريكي واحد ليسير تأسيسه ونموه بوتيرة مشابهة إلى حد كبير مع الخط الزمني لتأسيس ونمو مركز دبي للسلع المتعددة. وفي السنوات الثلاث التالية، طوّر هو وثمانية من زملائه منصة إنتركونتيننتال إكستشينج للتداول بالتوازي مع الحرص على لقاء العملاء المحتملين على أرض الواقع بغية تحصيل فهم أفضل لسُبُل دعم الانتقال إلى التداول الإلكتروني؛ «ليصمموا بذلك التكنولوجيا التي أحاطت بعملهم والتي كانت الأساس للكثير من المزايا المبتكرة على المنصة. وكان على رأسها حدود الائتمان قبل التداول وعوامل التصفية الائتمانية للطرف المقابل وتأكيد التداول الإلكتروني وغيرها من المزايا الشائعة اليوم، ولكنها كانت مفاهيم جديدة نسبياً آنذاك. حينما أطلقنا الشركة باستخدام منصتنا التجارية المكتملة في شهر مايو من عام 2000، أسميناها إنتركونتيننتال إكستشينج (ICE) تجسيداً لقدرتنا على تجاوز الحدود وخدمة الأسواق العالمية باستخدام منصتنا الشبكية التقنية المبتكرة. وكان ثمار ذلك القرار أن أكثر من 70 بلداً اليوم تجري تعاملات في أسواق إنتركونتيننتال إكستشينج، وقد قمنا أيضاً بتوسيع نطاق بنيتنا التحتية المخصصة للبورصة والمقاصة في المملكة المتحدة وهولندا وسنغافورة وكندا والولايات المتحدة الأمريكية».

وبفضل منصة مبتكرة ومجربة ومختبرة، فإن قدرة سبريكر على تحديد الجوانب الإيجابية للبورصات القائمة وسُبُل تحسينها إلى جانب توفير مستوى وصول عالمي بكل ما تحمله الكلمة من معنى جعلت ما يقدمه مكسباً لكل المعنيين بالأمر. في عام 2001، كانت بورصة البترول الدولية (IPE) في لندن تتطلع إلى الانتقال من التداول في حلقة البورصة إلى التداول الإلكتروني. بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت أيضاً بورصة إقليمية قدمت عقوداً آجلة للنفط بحصة تقل نسبتها عن 25% في السوق العالمية. بعد الاستحواذ على بورصة البترول الدولية، التي أصبحت تُعرف اليوم باسم إنتركونتيننتال إكستشينج فيوتشرز يوروب، عمل الفريق بوتيرة مكثفة على تطوير منتجات مقايضة جديدة بنظام المقاصة، بالتوازي مع بناء أسواق للخيارات والعقود الآجلة الإلكترونية لم يقتصر إسهامها فقط على إتاحة الفرصة لشركات النفط الخام في لندن للانتقال من التداول في حلقات البورصة إلى التداول الإلكتروني، بل امتدَّ ليشمل توسعة حصة عقود النفط الآجلة المتداولة ونقلها من حدود الإقليمية إلى العالمية. 

 

بحلول عام 2016، أعلنت إنتركونتيننتال إكستشينج فيوتشرز يوروب عن تسجيلها رقماً قياسياً من خلال 18 عاماً متتالياً من نشاط التداول ولا تزال تضطلع بمهمتها بوصفها مركزاً لابتكارات السوق وكذلك كونها منصة الإطلاق التي شهدت إطلاق إنتركونتيننتال إكستشينج كلير يورب ويوربيان كريدت ديفولت سوابس (CDS). جدير بالذكر أن الأولى كانت أول غرفة مقاصة جديدة في لندن على مدار ما يزيد على قرن من الزمن. 

منذ ذلك الحين، وسعت إنتركونتيننتال إكستشينج وطورت عروضها من خلال الاستحواذ وإنشاء ست غرف مقاصة، على رأسها مجلس نيويورك للتجارة (NYBOT) في عام 2006، الذي يُعرف حالياً باسم إنتركونتيننتال إكستشينج كلير يو.إس.، وإنتركونتيننتال إكستشينج كلير نيذرلاندز أخيراً. 

سيدرك من يعرف  التوجّه الذي تنتهجه القيادة الرشيدة في دبي ومن يعرفني  السبب الذي دفعني إلى الكتابة عن هذا الأمر. ولأنها مركز حقيقي للتجارة، فإن تأسيس غرفة مقاصة عالمية متطورة تشاركنا رؤيتنا المستقبلية بشأن إمكانية الوصول والتواصل تتعدى كونها ركيزة أساسية، بل تعد قيمة مضافة لأعضائنا الذين يزيد عددهم على 19.000 من الشركات وأصحاب الأعمال المحتملين الذين يسعون إلى تأسيس نشاط تجاري في بلدنا. إلى جانب قدرة إنتركونتيننتال إكستشينج على تقديم خدمة مقاصة ذات فعالية رفيعة المستوى بالتعاون جنباً إلى جنب مع غرفة المقاصة التي تأسست بمقتضى اللوائح العالمية، شركة دبي لمقاصة السلع (DCCC)، لسلعنا الأساسية وعلى رأسها بورصة دبي للذهب والسلع (DGCX) للعملات والمعادن والهيدروكربونات والأسهم وقائمة مراكز السلع المخصصة المتنامية بوتيرة مستمرة، ومنها الماس والقهوة والشاي والكاكاو والكريبتو، فإن البنية التحتية لإنتركونتيننتال إكستشينج تجسد فرصة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة لزيادة رأس مالها بإدراج نفسها في بورصاتنا دون الحاجة إلى التعامل مع نقاط دخول السوق المرتفعة الحالية المرتبطة بالبورصات الكبرى، على غرار ناسداك دبي، التي أُطلقَت أخيراً وأُتيحَ التعامل فيها في وقت سابق من هذا العام للشركات التي تقل قيمة رأس مالها عن 250 مليون دولار. 

بعد إطلاق إنتركونتيننتال إكستشينج فيوتشر أبوظبي (IFAD) في عام 2019 مع شركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك) وتسعة من كبار تجار الطاقة في العالم، وضعت إنتركونتيننتال إكستشينج فيوتشر أبوظبي الأسس لمؤشر مرجعي حقيقي للنفط في الشرق الأوسط بالتوازي مع إطلاق أول عقد نفط مربان خام آجل على مستوى العالم. على مسافة تبعد 90 دقيقة فقط، يبدو أن الوقت أصبح مناسباً لإنتركونتيننتال إكستشينج لمواصلة توسعها في دبي واستكمال ما يرى الكثيرون أنها القطعة المفقودة من الأحجية. 

ختاماً، فإن ما يجعل مركز دبي للسلع المتعددة متفرداً ليست قدرته على إنشاء مركز تداول مركزي عالمي فحسب، بل في الحقيقة المتمثلة في أن غالبية الشركات الكبرى في العالم، إن لم يكن كلّها، إمّا مسجلة أو عملت مباشرة مع شركة مسجلة لدى مركز دبي للسلع المتعددة بفضل قدرته على توقع احتياجات السوق. وبذلك فإن ما يجمع بين إنتركونتيننتال إكستشينج ومركز دبي للسلع المتعددة أكثر مما يبدو للعين للوهلة الأولى. 

 

* الرئيس التنفيذي الأول والمدير التنفيذي لمركز دبي للسلع المتعددة