مازال التأمل في الركود العربي، يأخذ وقتاً كبيراً من تفكير الذين كلفوا أنفسهم بهذه المهمة_ التفكير. بل وحتى بعد انفجار التاريخ لينتقم من القوى التي أعاقت سيرورته اختلفت العقول المفكرة في الفهم والمواقف.
إذا عدنا إلى الأسئلة التي طرحها المفكرون على أنفسهم لتعليل واقع الحال، والأسئلة المتعلقة بالخروج منه، فإننا نجد بأن الأسئلة المطروحة على التاريخ لم تكن من الدقة التي من شأنها أن تنجب أجوبة دقيقة، أو فهماً أقرب للحقيقة ولواقع الحال.
دعونا نتأمل السؤال الأشهر الذي طرحه في حينه شكيب أرسلان _ والذي احتفل به عبدالله العروي في كتابه الأيديولوجيا العربية المعاصرة، ومازال الكثير من المشتغلين بالسياسة والفكر يرددونه حتى هذه اللحظة، أقصد سؤاله (لماذا تقدم الغرب وتخلفنا) هل طرح السؤال على هذا النحو صحيح، وقادر على فهم علة تخلفنا؟ أم هو سؤال إلى السذاجة أقرب؟
إن هذا السؤال يجب أن يكون سؤالين ليغدو صالحاً للإجابة. السؤال الأول ما الغرب ؟ والسؤال الثاني ما هو واقع العرب. ولكن قبل هذا وذاك ما معنى التقدم التاريخي نفسه. إنها أسئلة منفصلة عن بعضها بعضاً.
ولوعدنا إلى سؤال شكيب أرسلان: لماذا تقدم الغرب ولماذا تخلفنا لنحلله معرفياً لوصلنا إلى المعنى الآتي: إن الغرب متقدم على الشرق، ويجب معرفة أسباب تقدم الغرب، ونأخذ بها لنحقق تقدم الشرق.
ترى: هل معرفة أسباب تقدم الغرب تفضي ميكانيكياً لمعرفة طرق خلاص تقدم الشرق (الشرق هنا هو العرب)؟ من قال بأن البحث عن علة تخلفنا يقوم في اكتشاف علة تقدم الغرب؟
إن أسباب اكتشاف تقدم الغرب يقود إلى معرفة الغرب فقط، ولا تقود معرفة هذه الأسباب إلى معرفة أسباب واقع العرب. فالتقدم الغربي الذي سحرَ المفكر العربي هو: العلم والديمقراطية. فاعتبر بأن الشرق قادر على استعارة هذين المفهومين وإنجاز التقدم المطلوب. وهذا يعني بأن أسباب تخلف العرب آنذاك يعود إلى غياب العلم والديمقراطية.
لقد مضى على سؤال النهضة هذا أكثر من قرن ونصف، ولَم يقد إلى الخلاص المطلوب.
إن التطور الغربي أكثر من مجرد علم وديمقراطية، إنها عملية تاريخية طويلة مليئة بالحروب والفقر والثورات من الثورة ضد حكم الكنيسة، إلى الثورة الصناعية، إلى الثورة العلمية، إلى نشوء العلاقات الرأسمالية، إن الغرب في حاله التي أعجبت مثقف النهضة العربية هو ثمرة تطور تاريخي طويل الأمد.
كما أن واقع العرب آنذاك هو الآخر ثمرة تاريخ طويل من الركود التاريخي.
إذاً السؤال الذي طرحته النهضة لم يكن سؤالاً صحيحاً. إنه سؤال انفعال وليس سؤال عقل يبحث في العلل الداخلية للواقع.
بل إن سؤال التراث والذي طرحه بعض المفكرين العرب في السبعينات بوصفه سؤالاً من شأن الإجابة عنه قد تقود إلى الإنقاذ، هو الآخر لا يقل سذاجة عن سؤال عصر النهضة. فكيف يمكن لمفاهيم ومقولات وترسيمات أنتجها الماضي السحيق أن تتحول إلى جهاز معرفة في فض عالم معيش، ودفعه نحو التقدم؟
ولقد أنجز كتاب عرب مجلدات ضخمة حول التراث العربي، من حسين مروة وطيب تيزيني إلى محمد عمارة ومحمد عابد الجابري، إعتقاداً منهم بأن هذا التراث والقراءة الجديدة له ستثور الوعي، الوعي الذي يقوم بدوره في إحداث التقدم.
يبدو لي بأن هناك حاجة كبيرة لوقفة معرفية حول معنى السؤال الحقيقي.
أجل متى يكون السؤال سؤالاً معرفياً ناشئاً من تأمل في الواقع نفسه ومرتبطاً به.
فلا يمكن للسياسة للإقتصاد وللمعرفة وللتنمية أن تتحقق على نحو واقعي عملي ناجع دون أن تكون الأسئلة صحيحة.
يجب أن نعود إلى أن نطرح على أنفسنا السؤال الآتي: ما السؤال؟ فالصيغة الشكلية للسؤال ليست هي الشرط الكافي ليكون السؤال سؤالاً.
ما السؤال؟ هذا ما يحتاج إلى مقالة خاصة لاحقة.