تنطوي كلمة الحق في العربية على معنيين: الحق بما هو تعبير عن امتلاك الإرادة لسبل الحياة والاستئثار بها بحرية لا تقوم على سلب إرادة أخرى، وهذا أمر ما يتوافق الناس عليه عموماً من حيث كليته، مع اختلاف بسيط في النظرة إلى الجزئيات.
فحق الملكية، مثلاً، حق لا يجوز الاعتداء عليه، كما هو الحق بالعيش الكريم، والحق بالحياة بعامة. وسن القانون عقوبات على كل اعتداء على هذه الحقوق.
والحق بما هو المعرفة التي يوصلنا إليها العقل وأدواته الاستدلالية والاستقرائية، بمعنى الحقيقة، وهنا نتحدث عن الاختلاف في صور الحق.
إن العربية وهي تجعل الحق دالاً على هذين المعنيين، فإنها عكست عقلاً لا يفصل بين حق الإنسان في الحياة وصورها، والحق المعبر عن المعرفة التي نقيضها الباطل، الحق بوصفه وعياً بالعالم. دعونا نقف عند الحق بوصفه وعياً بالعالم، بمعنى الحقيقة المعرفية. ولن أدخل في السردية الفلسفية للحقيقة، بل أنطلق من ما يهمنا من المسألة.
منذ نشأة علم الكلام وحتى الآن، مروراً بكتاب فصل المقال لابن رشد، والمشكلة المطروحة علينا هي: أين تكمن الحقيقة.. في النقل أم في العقل، أم في التوفيق بينهما؟
كان ابن رشد حريصاً على أن لا يرى المعركة محتدمة بين الحقيقتين، تأسيساً على اعتراف بالحقيقتين، والذي اختصره بحكم طريف: إن الحق لا يضاد الحق.
وإذا كان الحق لا يضاد الحق، فمن أين إذاً ينشأ التضاد بين حق وحق؟
لما كانت الحقيقة وعياً بالواقع، فإن وعي الواقع هو حقل اختلاف، لأن أشكال وعي الواقع متعددة. إذا كانت كل حقيقة تحمل في أحشائها بذرة تميزها، فهذا يعني أن الناس مختلفون في وعي الحقيقة.
إن الاختلاف لا يتحول إلى تضاد إلا إذا تعصب كل صاحب حقيقة لحقيقته، ونفى الحق في امتلاك الحقيقة.
وكأن ابن رشد أراد أن يقول: يجب أن لا يضاد الحق الحق، لأن الواقع يشهد على تضاد كهذا.
إذا كان البشر يشتركون في الحق امتلاكاً وفي الحق وعياً، فهذا يعني أن تعايش الحق بالمعنيين في حياة الناس لا يكون إلا بالاعتراف بالآخر بما ينطوي عليه من صور الحق، سواء كان الآخر فرداً، أو جماعة، أو أمة.
إن الاعتراف بحق الآخر لا يعني تبني حقيقة الآخر بالمعنى المعرفي، بل العيش دون نفي حق الآخر في وعي الحقيقة، ولكن دون تحويل هذا الوعي إلى تعصب لنفي الآخر. لكنّ أمراً كهذا لا يكون بدعوة أخلاقية، على أهميتها، بل لا بد من وجود قوة عملية تنظم حق الاختلاف وشرعنته، هنا يبرز دور الدولة، دولة الحرية والتسامح ومؤسسات المجتمع المدني.
والحروب الدينية والطائفية التي شهدها الغرب والشرق، والتي انتهت بانتصار الحداثة القائمة على مركزية العقل والإنسان، لم تقد إلى انتهاء الحروب بين البشر، بل إن الحروب التي جرت وما زالت تجري في عصر الحداثة وما بعد الحداثة تفوق في جرائمها وآثارها المدمرة أية حرب دينية، وهذا يعني أن الذئبية التي أشار إليها الفيلسوف هوبز ما زالت فاعلة في حياة الدول والجماعات.
والنخبة العالمية إذ تستلهم من التاريخ القديم والحديث والمعاصر تجربة البشر في التعايش، إلى جانب تجربتهم في العداوة، فإنها تطرح عقل التجاوز لكل ما يعيق العيش المشترك، وتعايش المختلفين، وهذا الأمر يتطلب شجاعة نقدية للذات وللآخر معاً في تعاملهما مع الحق وسردياته.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني