يبدو في ظاهر الأشياء أن الزخم «الشعبي» المساند للرئيس التونسي قيس سعيّد بدأ بالتقلص، وهو ما أكدته مختلف استطلاعات الرأي المحلية والدولية، وآخرها ما صدر في مقال للباحثة في معهد كارنيغي سارة يركس، حيث ذكرت أن سعيّد أصبح يحظى بـ55 في المائة من نوايا التصويت، بعدما كان وصل بعد الحركة التصحيحية ليوم 25 يوليو 2021 إلى 87 في المائة، ولكن القارئ الجيّد لأسباب هذا التراجع في نوايا التصويت يمكنه بسهولة استخلاص أن الرئيس قيس سعيّد ما زال يمتلك - لو أراد ذلك - خيوط اللعبة السياسية بين يديه، وذلك بشروط أهمها:

أولاً، ترك بعض التردد الذي يشوب مواقفه وفعله، خصوصاً في علاقة بالمضيّ قُدُماً في تصفية الإرث الإخواني الذي قاد تونس على مدى السنوات العشر الأخيرة إلى حالة من الدمار المجتمعي والاقتصادي والسياسي غير المسبوق.

ثانياً، اتّخاذ إجراءات جدّية من أجل تحسين الوضع المعيشي للتونسيين وذلك في إطار منوال تنمية يحافظ على الدور الاجتماعى للدولة.

ثالثاً، ضرورة التخلّي عن الخطابات التي من شأنها تغذية الفوارق والحقد بين مختلف التونسيين والاقتناع بصفة مبدئية ونهائية أنّ أصحاب المال هم تونسيون بكامل حقوق المواطنة وواجباتها ولا ينبغي التعامل معهم كمتّهمين حتّى إثبات البراءة، وهم لذلك أساس كلّ الحلول متى زالت النبرة العدائية تجاههم، ونعتقد جازمين أنّ مبدأ التضامن الوطني لديهم ثابت، وَهُمْ لذلك جزء من الحلّ ولا يمثّلون مطلقاً المشكل، مع ضرورة الحرص على السلامة القانونية للعملية الاستثمارية.

رابعاً، نرى لزاماً على الرئيس قيس سعيّد في مرحلة الانتقال الديمقراطي التي نعيشها، أن ينكبّ على وضع أسس شراكة مع مختلف الطيف السياسي والحزبي والاجتماعي وأساساً مع الاتحاد العام التونسي للشغل وذلك في إطار حوار وطني يؤدّي إلى وفاق سياسي مدني حول عقد اجتماعي وسياسي يؤسّس لتشاركية في الحُكْمِ تستثني الجماعات الإخوانية المصرّة على توظيف الخطاب الديني والتي حادت عن النهج المدني والوطني، وتسبّبت على مدى العشر سنوات في تزييف الوعي العام وتسميمه والحاق الدمار بالدولة والمجتمع وبالفرد التونسي.

ومعلوم أنّ الرئيس التونسي ينزع إلى تهميش دور كلّ الوسائط الحزبية والسياسية ومنظمات المجتمع المدني وحتى دور الإعلام في إطار تصوّر سياسي يريد مأسسة العلاقة المباشرة مع الشعب، وهذا من التصوّرات التي أثبتت التجارب التاريخية والمقارنة فشلها واستحالة تطبيقها، بل إنّ بعضها مثّل شكلاً من أشكال التحيّل السياسي أدّى إلى تركيز أنظمة سياسية إطلاقية، وليبيا خلال فترة حُكْمِ المرحوم معمّر القذافى كانت مثالاً صارخاً على ذلك.

وفي السياسة، من المهمّ أن نعي أنّ السند الشعبي يبقى دوماً هشّاً ومرهوناً بالقدرة على الاستجابة الفورية لمطالب الناس الملحّة والمتنامية خصوصاً في مراحل الأزمات، وهذا السند يتقلّص بصورة كبيرة كلّما فشل الحاكم في تحقيق مطالب الناس الذين لا يعيرون أيّ اهتمام للصعوبات الموضوعية التي تفرضها الأزمات.

ولأنّ هذا السند الشعبي هشّ بالضرورة خصوصاً في مراحل الأزمات والانتقال الديمقراطي، فإنّ تشكيل حزام سياسي ومدني قادر على تأطير وتوجيه وتوسيع هذا السند الشعبي، هو البديل الوحيد المتبقّي أمام الرئيس كي يُنقذ ما يجب ويمكن إنقاذه ويمنع بالتالي استغلال حزب النهضة الإخوانية للفجوة الموجودة بينه ومختلف هذه الوسائط السياسية والمجتمعية، وهي فجوة بدأت تُستغَلُّ من طرف البعض من أجل الترويج لإمكانية تقارب بين «الإخوان» وما يُسمونهم بـ«العلمانيين» الذين هم في واقع الأمر مجموعات وأفراد احترفوا مهمّة امتصاص أزمات «النهضة الإخوانية» منذ 2005 وإلى اليوم وهي/‏‏‏ أي النهضة- حكمت واستمرّت معهم وبهم.

إنّ عبقرية الفكر البشري أبدعت نظام الديمقراطية التمثيلية الذي يُرسى ويتجدّد بفضل آلية الانتخاب وتلعب فيه الأحزاب دوراً محورياً كما تكون فيه قوى المجتمع المدني عوامل تعديلية وضاغطة، وذات العبقرية البشرية هذه مكّنت منظومة الديمقراطية التمثيلية من آليات إضافية تعديلية لضمان نجاعة الحُكْمِ وديمومته ومن ذلك آلية الاستفتاء في مسائل محدّدة.

وقبل هذا وبعده أصبحت التشاركية والحوار اللذين فرضتهما تطوّرات الأوضاع وتنامي الوعي في المجتمعات بمثابة الرئة الإضافية التي أعطت لمنظومة الديمقراطية التمثيلية أجنحة أخرى للتماسك والديمومة، وكلّ هذه التطوّرات تمرّ بالضرورة عبر الوسائط الحزبية والمجتمعية التي يتعيّن صيانتها وتطويرها وإخضاعها لمقتضيات قانون تحرّري لكنّه يضمن استقلالية القرار الوطني ويحصّنه ضدّ كلّ الأجندات والمطامع الخارجية، لأنّه في خلاف ذلك فإنّ تونس ستدخل نفق الفوضوية الشعبوية أو هي ستذوب بالكامل في أجندات الآخرين، وأمّا سيناريو عودة «الإخوان» فلا نرى له أثراً في مستقبل البلاد والعباد.