يحلو لعلم النفس التطوري، وكذلك لعلم النفس الفرويدي، أن يردّ الحرب إلى الطبيعة العدوانية للإنسان، فالإنسان من وجهة نظر علم النفس التطوري وعلم النفس الفرويدي وعلم النفس السلوكي، ينطوي على غريزة العدوان.

وأشار ابن خلدون نفسه إلى عدوانية الإنسان الغريزية في مقدمته الشهيرة.

وليس لأحد أن ينكر أنماط السلوك البشري العدوانية، لكن غريزة العدوان إذا كانت تفسر الحالات الفردية فإنها لا تفسر وحدها الحرب بوصفها وسيلة لتحقيق المصالح والدفاع وظاهرة منظمة ذات قواعد سلوك، والحرب حالة موعى بها عقلياً، وذات أساس ثقافي في حصولها وأساليبها بمعزل عن أسبابها الموضوعية المتنوعة.

فالجيش عنصر أساسي من عناصر تكوين الدول منذ نشأة الدول في التاريخ. وإذا كانت الجيوش تنطوي على ما هو مشترك من حيث التنظيم والعتاد والخطط مع اختلافات في العقيدة العسكرية، وحجم القوة وكيفها، فإنها مع ذلك تكونت في تشكيلة اجتماعية اقتصادية تاريخية محددة، وبالتالي في ثقافة موضوعية وثقافة مكتسبة عن طريق المؤسسات العسكرية التعليمية.

والثقافة بالمعنيين اللذين أشرت إليهما، تحدد تكوّن ذهنية الأفراد وذهنية الجماعات، والتي تنعكس في السلوك.

فالحرب، سلوكاً، سواء كانت حروباً بين الدول، أو حروباً بين الجماعات كالحروب الأهلية، هي تعيين للذهنية المتكونة ثقافياً.

من هنا تبرز أهمية دراسة الحروب المتنوعة أخذاً بعين الاعتبار العنصر الثقافي ودوره في فهم مسارات العنف والحرب ونتائجها.

فثقافة الولاء والانتماء والطاعة والحرية والوعي الجمعي والوعي الفردي والتربية والتعليم المكتسبة من الأسرة والمؤسسات التعليمية وكل ما له علاقة بالنظرة إلى العالم والآخر، ينعكس بالضرورة على سلوك الأفراد في حالات العنف والحروب بين الدول والحروب التي تخوضها الجماعات العنفية الأصولية.

ففي حرب تتطلب فيه واقعة ما سرعةً في مبادرة فردية، فقد لا يستطيعها من يتطلب منه ذلك إذا كان ينتمي لثقافته الامتثالية، وقد تنتج هذه الثقافة الامتثالية كارثة. وبدورها قد تؤدي الثقافة الامتثالية رغم ثمنها الباهظ في الحرب إلى حالة من التضحيات المجانية. فالنظرة إلى الإنسان ومكانته تحدد إلى حد كبير قيمة البشر في الحروب.

ولا يمكن فهم سلوك الحركات العنفية الأصولية، وسلوكها في الحروب التي تخوضها ضد بعضها بعضاً، وضد الدول، دون فهم ثقافتها حول الموت وما بعد الموت. ونظرتها إلى المقدس والمدنس. وقس على ذلك الحقل القيمي الذي خضع له الفرد المحارب، أو صاحب القرار في الحرب.

وإذا كان صحيحاً بأن الدكتاتوريين، في الغالب، ينطون على بنية نفسية عنفية، فإن ثقافة استخدام القوة، بمعزل عن النتائج الكارثية لها، هي التي تقف وراء إشعالهم الحروب، أو خوضها لها خارج حدود الدول التي يحكمونها.

فقرارات السلم والحرب عندهم لا تؤخذ انطلاقاً من تأمل ونظر في الشروط الموضوعية، وإمكانية تحقيق المصلحة، بل إن ثقافة القوة التي يمارسونها في حكم الداخل، تدفعهم لممارستها في حل مشكلاتهم مع الخارج. وقد يجدون في روح الجماعة التي تمجد ثقافتها القوة سنداً قوياً لهم.

ومن الصعب على الباحث أن يصل إلى نتيجة نظرية عامة حول علاقة الثقافة والحرب والعنف تنطبق على جميع الجيوش والمجتمعات والحروب بين الدول والحروب الأهلية، لأن الخصوصيات الثقافية تفعل فعلها هنا، ولكن لا مناص من تأكيد أهمية الدلالة المنهجية لبعض العلوم الإنسانية، وبخاصة علم النفس وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا في دراسة الترابط بين الثقافة والعنف والحرب.