الفتوى في الدين شأنها عظيم، وهي مسؤولية كبرى يتحملها المختصون، وهي ليست بالقضية السهلة حتى يتساهل فيها من شاء، بل تحتاج إلى شروط يجب توافرها في المفتي، ليكون أهلاً للإفتاء بحق، وليس كل من ادعى العلم الشرعي هو عالم فضلاً عن أن يكون مفتياً يتصدر لاستفتاءات الناس ويخوض فيها.

وقد جاء التحذير الشديد من الجرأة على الفتوى، والتسرع فيها، وخاصة ما يتعدى أثره إلى المجتمع، وما يتعلق بالنوازل والملمات والشؤون العامة، والنصوص القرآنية والنبوية في ذلك كثيرة.

ولذلك بيّن العلماء أن ضبط الفتوى من صلاحيات ولي الأمر، وأن له أن يمنع من ليس أهلاً لذلك، وأن يأخذ على يديه ويؤدبه، قال الخطيب البغدادي: «ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها وأوعده بالعقوبة».

وكذلك له أن يمنع من أفتى بلا إذن، وله قصر الفتوى على بعض العلماء وأن يمنع الآخرين، بما فيه تحقيق مصالح المسلمين وضبط شؤونهم، كما تنص القاعدة الشرعية على أن تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة.

والناظر في الواقع اليوم وخاصة في العالم الافتراضي في مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات وغيرها يجد العجب العجاب، من جرأة البعض على الفتوى، واستسهالهم لها، حتى أصبح هذا المجال مرتعاً لمن هب ودب، حتى ممن ليس لديهم أدنى علم شرعي، مما أدى إلى فوضى كبيرة في الفتاوى.

ويأتي الخطر كذلك من المتعالمين، الذين يظنون أنهم بحفظ بعض النصوص والمسائل قد أصبحوا أهلاً للإفتاء، فيتصدرون للخوض في كبريات المسائل، دون صلاحية ولا أهلية، فيفسدون إفساداً عظيماً، فقد يضيقون على الناس فيما وسعه الله عليهم، ويشددون عليهم فيما يسره الله لهم، وقد يفتحون أبواب الانفلات فيما يجب فيه الحيطة والحذر، وفيما ينبغي التشديد فيه مما يتعلق به حفظ المقاصد الكبرى من حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.

وقد ينظرون من زاوية صغيرة جداً، أو يعتمدون على قول ويهملون أقوالاً، ويجهلون أو يتجاهلون أن استنباط الأحكام الشرعية وتنزيلها على الوقائع أمر كبير، وأنه ليس مجرد حفظ مسألة أو نص أو قول، بل هو إلمام شامل، وفهم ثاقب، واطلاع عميق، ونظر في المقاصد العليا، والمصالح الكبرى، ودراسة للظروف والمآلات، وما يحيط بالفتوى من أبعاد شرعية وواقعية.

ويزداد الأمر خطورة مع توظيف البعض للفتاوى لتحقيق أجندات معينة تخدم هذا التيار أو ذاك التنظيم، واستخدامها للتحريض والتكفير والتطرف، كما حصل في بعض المجتمعات من استغلال الفتاوى للتحريش بين الناس، وتحريض بعضهم على بعض، وتكفير بعضهم لبعض، ومحاولة التأثير على الناس لدعم تيار معين.

وكما حصل ويحصل من التنظيمات المتطرفة التي تنشر فتاوى التكفير والكراهية وتحرض على الإرهاب، وتحرِّف النصوص الشرعية عن معانيها، وتقطعها عن سياقها ومقاصدها، وتقتطع فتاوى تتعلق بظروف مكانية وزمانية معينة وتنزلها على غير وقائعها الصحيحة، مما يجعل ضبط الفتوى ضرورة كبرى لحفظ الدين من الاختطاف والتشويه، ولصيانة المجتمعات من الأخطار والأضرار.

ويتأكد ذلك كذلك في خوض العابثين في الفتوى من أهل الانفلات والتسيّب، حتى تجاوزوا الثوابت والمسلَّمات، وأتوا بالفتاوى الشاذة التي ينكرها الشرع وتستنكرها الفطر والعقول، باسم التنوير والتجديد، دون أهلية ولا ضوابط ولا معايير.

إن كل ذلك وغيره يؤكد لكل عاقل ضرورة ضبط الفتوى، وصيانتها من عبث العابثين، وجرأة المتعالمين، وتوظيف المتطرفين، مهما كانت اتجاهاتهم وغاياتهم، وخاصة فيما يمس الشؤون العامة والنوازل، فإن ذلك من حفظ الدين الذي هو من أهم مقاصد الشريعة الغراء.

وقد حرصت دولة الإمارات كل الحرص على ضبط الفتوى، فأنشأت مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، وأناطت به إصدار الفتاوى العامة الشرعية في الدولة، وضبط الفتوى وتوحيد مرجعيتها وتنظيم شؤونها، وتأكيداً على ذلك دعا المجلس أفراد المجتمع ومؤسساته إلى عدم الخوض في مسائل الفتوى دون ترخيص أو تصريح، وعدم نشر أو إعادة نشر أي فتوى شرعية غير معتمدة من المجلس والجهات الرسمية المخولة بالفتوى في الدولة.

إن جهود دولة الإمارات في ضبط الفتوى تنبع من مسؤوليتها في صيانة الدين وتحقيق مصالح الناس وترسيخ قيم الإسلام السمحة ومقاصده العليا.