يلجأ القائمون على رعاية القصور الملكية البريطانية إلى اختبار سريع لتحديد أفضل العمال المتنافسين على وظيفة مدير منزل في قصور الملكة إليزابيث؛ وذلك عبر وضع ذبابة ميتة في إحدى الغرف، في مكان بارز، حتى إذا ما تم اصطحاب المرشح للوظيفة بجولة في أروقة القصر، يمكنهم معرفة مدى دقة ملاحظته. وليس ذلك فحسب، بل ماذا سيصنع إذا ما رأى تلك الذبابة؟.
إحصائياتهم تشير إلى أن «نصف المرشحين يلاحظون الذبابة، لكن واحداً فقط من كل عشرة ينحني ويلتقطها، وهذا هو المرشح المميز» بحسب تقرير عن رئيسة قسم التوظيف «تريسي ووترمان» نقلته الشرق الأوسط عن «ماي لندن نيوز».
وجهة نظر تريسي أن مهمة من يعمل مدبراً للمنزل في القصور الملكية تتمحور حول الاعتناء بالتفاصيل. انتهى كلامها. وهو مفهوم صحيح ذلك أنه في أدبيات الإدارة يقل الاهتمام بالتفاصيل كلما ارتقى الإنسان في السلم الإداري. بمعنى أن المرؤوسين ومن دونهم (كمدبرة المنزل) يتوقع منهم الانشغال بالتفاصيل في حين أن المدير العام أو الوكيل أو الوزير أقل علماً بالإجراءات وبمتابعة التفاصيل الدقيقة. ولو انقلبت المعادلة لدبت الفوضى في أروقة العمل. فتخيل أن قائد الطائرة يترك قمرة القيادة ويفتش في كشوفات المضيفين عمن أكل دجاج ومن أكل لحم الضأن. الأمر نفسه ينطبق على المدير العام عندما يطلب من سكرتيرة أحد المديرين أن تشرح له ماذا فعلت اليوم بالتفصيل. من أين سيجد كل هؤلاء متسعاً من الوقت لمتابعة ذلك، ناهيك عن فهم تلك التفاصيل المملة.
وللقياديين الحق في الغوص في التفاصيل الدقيقة، ولكنهم يمارسون هذا الحق في الأوقات العصيبة التي يرتكب بها بعض المسؤولين أخطاء فادحة باتت تتكرر بصورة لم تعد مقبولة، رغم كثرة الملاحظات التي وجهت إليهم. إذن التفاصيل الدقيقة قد تكون مطلوبة في بدايات العلاقات مع المسؤولين الجدد حتى إذا ما تبين لهم مستوى مهنيتهم، وسلامة إجراءات عملهم، هنا يعود القيادي إلى مكانه الطبيعي، ويركن إلى مزيد من التفويض والمتابعة الروتينية.
ويدخل القياديون في التفاصيل «مؤقتاً» حينما يكون هناك أمر جلل، مثل حديث الساعة، أو مشكلة تؤرق مجلس الإدارة، أو لجنة تحقيق قائمة، أو تدخل النيابة العامة في مسألة حرجة فضلاً عن غيرها من موضوعات أقل شأناً. ففي الكويت مثلاً حينما يقدم لدينا استجواب من نواب البرلمان لوزير ما فإن الوزير يقرأ كل ما يمكنه قراءته من تقارير حتى يكون مستعداً للمواجهة الحادة التي يسميها الإنجليز في أدبيات السياسة grilling. فقد شهد منبر الاستجوابات تألقاً كثيراً من الوزراء لأنهم ينعمون بمعرفة تفاصيل فاجأت النواب أنفسهم.
ما أود قوله إن القياديين أو كبار المسؤولين الأصل في عملهم ترك التفاصيل للمديرين، في حين يغوص في أدق التفاصيل المرؤوسون الواقعون في أدنى السلم الإداري. وهذه طبيعة العمل التنظيمي، لأن هذه التراتبية تريح المنغمسين في تفاصيل العمل. فلو شعر المرؤوس أن أحداً غيره سوف يهتم بالتفاصيل قد يتراخى، وربما لا يبذل الجهد الكافي، هنا يقع مديره في حرج مع كبار القياديين.
وفي الواقع فإن انشغال القيادي في التفاصيل نقيصة بحقه، أما اهتمام صغار الموظفين بالتفاصيل الدقيقة فهي ما يميزهم، وفي كثير من الأحيان تكون سبباً لترقيتهم بعد أن استكملوا حصيلة وافية من تفاصيل العمل.
ونستطيع القول إن اختبار الذبابة هو أول خطأ قد يقع فيه القيادي الجديد وكذلك المرؤوس إن لم يدرك كلاهما الحد المعقول من الإلمام بالتفاصيل.
* كاتب كويتي متخصص في الإدارة