إن الدعوة السليمة للفكر الديني في المنطقة العربية هي في أحد جوانبها دعوةٌ لإعادة تصحيح خطيئة تاريخية استهدفت منذ قرنٍ من الزمن عزل هذه المنطقة عن هويتها الحضارية الإسلامية وعن دورها العالمي. أيضاً، فإن الدعوة للهُوية الوطنية هي أصلاً لتصحيح خطيئة جغرافية قام بها المستعمر الأوروبي بتجزئة البلاد العربية ومحاولة إزالة هويتها الثقافية الواحدة.
في الحالتين، لا تعارض على الإطلاق بين العمل من أجل خدمة الأديان والعمل من أجل الأوطان وهُويتها العربية، وأن كلاً منهما يخدم الآخر ويسهم في رسالته. وأيضاً لا تعارض بين مشروع سياسي قومي يستهدف تكامل المنطقة العربية لصالح كل أبنائها، وبين أي طرح فكري قائم على القيم الدينية يستهدف صالح وتقدم الإنسان والمجتمع.
فهل، على سبيل المثال، يجد المسلمون في أوروبا تناقضاً بين مضمون دينهم وبين الوحدة التي حدثت بين الدول الأوروبية؟ وهل يتضرّر المسلمون في أمريكا من الاتحاد بين ولاياتها؟ فكيف يمكن أن تُصان وحدة الثقافة ووحدة الحضارة إذا لم تُصَن وحدة الأرض ووحدة الشعب؟
ثم، أيّهما يجب إصلاحه أولاً: الحكم أم المجتمع؟ وهل إصلاح نظام الحكم سيؤدي حتماً إلى إصلاح المجتمع؟! فالعلاقة بين المسألتين هي طبعاً جدلية، لكن من المحتّم أن إصلاح المجتمع أولاً هو السبيل إلى إصلاح الدولة ونظام الحكم، فالحركات السياسية الدينية حينما تعطي الأولوية لتغيير أنظمة الحكم، فذلك يعني بالنسبة لها بناءَ أطر حزبية فئوية، ثم عملاً سياسياً يومياً وصراعات لاحقة على السلطة والمناصب، بينما إصلاح المجتمع أولاً يعني بناءً سليماً للدعوة والدعاة، ويوجب حسن الأسلوب والتعامل مع الآخر في المجتمع، واستخدام التأثير الإيجابي في الناس من خلال العمل الثقافي والفكري البعيد عن التحزّب والمصالح الخاصة.
هنا أهمية دور «الآخر» في المجتمع العربي التعدّدي، وهذا «الآخر» قد يكون على أساس مذهبي أو طائفي أو إثني أو حتّى عقائدي وحزبي، لكن المعيار ليس بإقرار حق وجود «الآخر» فقط، بل بحقه في دوره كشريك طبيعي في المجتمع وفي المواطنة، وبضمان صيانة حقوقه الكاملة كمواطن متساوٍ مع المواطن الآخر في كل الحقوق والواجبات.
إن الأمة العربية تقوم خبرتها التاريخية وحضارتها الثقافية على الحوار مع الآخر، بينما لا يفعل ذلك ناسُها. الأمة العربية هي مهبط كل الرسل والرسالات، وفيها ظهرت قبل الإسلام حضارات كثيرة ورسالات سماوية. كذلك في الدين الإسلامي دعوةٌ صريحة للتعارف بين الشعوب ولعدم التفريق بين الرسل والأنبياء، فهي أمة عربية مجبولة على التعدّدية وعلى حق وجود الآخر، وتقوم روحياً على تعدّد الرسل والرسالات، وتقوم ديموغرافياً على تعدّد الأجناس والأعراق والألوان، وحضارياً على تجارب وآثار أهم الحضارات الإنسانية، بينما يسود واقع الأمة العربية الآن حال التخلّف والتفرقة والفئوية والتعصّب.
لقد شهدنا في الفترة الماضية تفسيرات مختلفة للتراجع الحاصل في عموم المنطقة العربية، وللهواجس التي تشغل الآن بالَ كلّ إنسان عربي، لكن قلّة من هذه التفسيرات تضع الإصبع على الجرح العربيّ الأكبر، فأساس المشكلة هو أصلاً بالمجتمعات العربية نفسها، وبكل من فيها، وليس فقط بحكوماتها أو بما هو قائم من مشاريع ومؤامرات أجنبية.
إن غياب الفهم الصحيح للدين والفقه المذهبي ولمسألة الهُوية وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو المناخ المناسب لأيّ صراع طائفي أو مذهبي أو إثني أو قبلي، يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتعدّد إلى عنف دموي يُناقض جوهر الرسالات السماوية والفهم السليم للهُوية الثقافية العربية، ويحقّق غايات الطامحين للسيطرة على العرب وعلى أرضهم ومقدّراتهم.
إن الصراعات الداخلية الدموية الجارية الآن في أكثر من بلد عربي، وبروز ظاهرة «داعش» وأعمالها الإجرامية التقسيمية للأوطان وللشعوب، لم تصل كلها بعدُ بالعرب إلى قاع المنحدر، فما زال أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتضح صورة مستقبلهم، لكن رغم وجود هذه المخاطر فعلاً، فإن ما تشهده الآن بلاد العرب من أفكار وممارسات سياسية خاطئة باسم الدين والطائفة أو «الهُويّات الإثنية» يمكن أن يكون هو ذاته، خلال الفترة المقبلة، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب في الفكر والممارسة، في الحكم وفي المعارضة، فقيمة الشيء لا تتأتّى إلا بعد فقدانه، والأمة هي الآن عطشى لما هو بديل الحالة الراهنة من أفكار وممارسات سيئة.
هذه ليست مجرد تمنيات، بل هي خلاصة تجارب شعوب أخرى، كالأوروبيين الذين خاضوا في النصف الأول من القرن الماضي حربين عالميتين دمّرتا أوروبا وسقط نتيجتهما ضحايا بالملايين، وكانت بين شعوب الدول الأوروبية صراعات قومية وإثنية وطائفية أكثر بكثير مما تشهده الآن المجتمعات العربية. رغم ذلك، وحينما توفرت الظروف والقيادات والرؤى السليمة، طوت أوروبا صفحات الماضي المشين بينها واتجهت نحو التوحّد والتكامل بين شعوبها، متجاوزةً ما بينها من خلافات في المصالح والسياسات، واختلافات في اللغات والثقافات والأعراق.
أوروبا شهدت أيضاً في النصف الأول من القرن الماضي تجارب فكرية وحزبية سيئة، كالنازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، ودفعت القارة الأوروبية كلها ثمناً باهظاً لسياسات هذه التجارب السيئة، لكن هذا «النموذج الأوروبي» في التقاتل والتصارع أولاً، ثم في التكامل والتوحّد لاحقاً، احتاج طبعاً إلى مناخ سياسي ديمقراطي داخلي، على مستوى الحكم والمجتمع معاً، مما سمح بحدوث التحوّل الكبير، فالمسألة ليست فقط انتخابات وآليات للممارسة الديمقراطية الشكلية، لأن هذه، إذا لم تقترن بثقافة ديمقراطية سليمة داخل المجتمع نفسه، قد تزيد الأمور تعقيداً، كما جرى في تجربتيْ ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.
وكم هو ساذجٌ من يعتقد أن القوى الأجنبية الكبرى حريصةٌ الآن على مصالح وحقوق الشعوب العربية بعد أن استعمر هذه المنطقة عددٌ من هذه القوى الكبرى لعقود طويلة، واستعمارها هذا كان هو المسؤول الأول عن تخلّف وتقسيم العرب، وعن احتلال فلسطين وتشريد شعبها واستنزاف الدول المجاورة لها في حروب متواصلة. وها هي الآن تتحدّث عن حرية ومصالح الشعوب العربية، بينما شجّعت هذه الدول الأجنبية بعض شعوب المنطقة على استخدام العنف المسلّح داخل أوطانها.
إن نقد الواقع وكشف سلبياته هو مدخل صحيح لبناء مستقبل أفضل، لكنْ حين لا تحضر بمخيّلة الإنسان العربي صورة أحسن بديلة لواقعه، تكون النتيجة الحتمية عنده هي الشلل بالفكر وبالعمل والاستسلام لواقع الحال تحت أعذار اليأس والإحباط وتعذُّر وجود البديل. وكذلك هي مشكلة كبرى حينما يكون هناك حراك عشوائي فقط من دون رؤية فكرية واضحة أو أسلوب سليم أو في غير الاتجاه الصحيح.
فأين العرب الآن من المكونات الأساسية لمجتمعاتهم، التي تقوم على الوطنية والعروبة والإيمان الديني؟! الرسالات السماوية تدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة، و«العروبة» تعني التكامل ورفض الانقسام، و«الوطنية» هي تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية، فأين العرب من ذلك كلّه؟!
*مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن.