الوضع غير المسبوق الحالي يتطلب هدوءاً غير مسبوق أيضاً وحكمة بالغة في التعامل. الحروب والصراعات المسلحة فيها ما يكفيها من صعوبات ومآس إنسانية تستوجب نجدة الملهوف وإغاثة المتضرر.
وعادة تأتي الحروب ومعها مواقف مسبقة يمكن للجميع اتخاذها. ففريق يصطف مع هذا لإيمانه بقضيته، وآخر يؤيد ذاك لعوامل تاريخية أو جغرافية أو اقتصادية أو اجتماعية أو كل ما سبق. إنها سُنّة الحروب. قاسية؟ نعم! لكنها أمر واقع. الحل المثالي إنهاء الحرب ووأد الصراع المسلح، لكننا لا نعيش في عالم مثالي.
والشواهد لا تتوقع أن يتحول للمثالية في المستقبل القريب، لكن ثاني أفضل الحلول لمن يؤمن بقيمة السلام ويعتنق مبدأ الإنسانية قبل كل مصلحة وفوق كل منفعة هو إشهار الانحياز لأولوية سلامة الجميع وأمنهم وأمانهم. الحرب الدائرة رحاها حالياً والتي فاجأت العالم، وأفقدت البعض توازنه، وضربت البعض الآخر في مقتل أخلاقي، تستلزم هذا الإشهار.
المواقف المتأرجحة بين فرض العقوبات، أو منع استيراد القطط من فصيلة بعينها، أو مقاطعة أعمال أدبية تاريخية، أو حتى المصادرة لأملاك فريق والمهددة بمقاطعة بضائع أو إغلاق مضائق جميعها أدوات قد تبطئ من وتيرة الدمار أو تقلل من حجم الخراب.
وكلما ارتبط استخدام أدوات الضغط هذه بمصالح يعلم مستخدموها أنها متضاربة، أو يحاول أصحابها الإمساك بالعصا الأخلاقية وموازين القوى المستقبلية من المنتصف.
فقدت قدرتها على التأثير أو حتى الإقناع. في عالم اليوم، ورغم واقعيته الافتراضية، لم تعد للشعارات الرنانة أو الجمل الإنشائية محل من الإعراب أو مجال للتأثير. لذلك، فإن إنكار المصالح لا يفيد، واتخاذ مواقف عنترية شاجبة أو حنجورية غاضبة دون فعل لن تخيل على أحد، لا المعتدي أو المعتدى عليه.
وعليه، فإن الجنوح للسلم هو خير الحلول وأصدقها لمن أراد للإنسانية سبيلاً. الاتهامات التي يوجهها البعض من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي لدول في الغرب والشرق بالتردد في إعلان الموقف أو الغموض في إشهار الانحياز في الحرب الدائرة في أوكرانيا تبدو منطقية ومفهومة.
لكن في هذه الحرب تحديداً يبدو الوضع مختلفاً. فهذه ليست مواجهة بين شرق وغرب، أو بين شيوعية ورأسمالية، أو حتى بين معتنقين مختلفين. إنها مواجهة تبدو للوهلة الأولى وكأنها محلية بين شعب صار دولتين، لكنها في الوقت نفسه مواجهة تستدرج العالم كله إليها بقواه العظمى والصغرى وما بينهما. وليست مبالغة لو قلنا إن مليارات البشر حول العالم تبحث وتنقب عن إجابة لسؤال يبدو ساذجاً لكنه حقيقة «ماذا يريد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أوكرانيا؟».
وبينما الإجابات تأتي من كل حدب ملونة بألوان انتماءات المجيبين، حيث توجه أوكرانيا صوب الاتحاد الأوروبي وتوسع حلف الـ«ناتو» شرقاً، أو السيطرة على احتياطي الفحم في دونباس، بالإضافة لمعضلة خطوط أنابيب الغاز الطبيعي، أو استعادة مجد الاتحاد السوفييتي السابق ورسم حدود جديدة لروسيا مع عودتها كقوى عظمى قولاً وفعلاً، يصول الجميع ويجول في هوامش الحرب وأهدافها المتنازع على تحديدها. وفي تلك الأثناء، يتم الدك ويفقد مدنيون وعسكريون حياتهم، ويُشرد سكان وتنزح أسر وتضيع القيمة الأصلية، ألا وهي الإنسانية.
تظل هناك جهود إعادة رسم خريطة العالم. وتتفاقم هذه الجهود وتصل حد المبالغة والإفراط من أجل ترجيح كفة موازين على حساب أخرى، بعد ما أصبح في حكم المؤكد أن القوى المهيمنة على العالم أعلنت انتهاء صلاحية المنظومة الدولية المعمول بها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وسواء أسفر ما يشهده العالم حالياً عن حرب عالمية ثالثة أو مناوشات ترسيم قوى مغايرة أو «جس نبض العالم» تجاه توسعات روسية قادمة، سيبقى هناك من يضع على رأس الأولويات سلامة الشعوب وأمنها بغض النظر عن إعادة توزيع القوى وترسيم الحدود وتحديد التوازنات وتقسيم قضمات كعكة الكوكب.
موقف غالبية الدول العربية وعلى رأسها مصر والإمارات والسعودية والكويت والبحرين وقطر وعمان والأردن، في الأمم المتحدة هو ترجيح لكفة الدبلوماسية والمفاوضات والسلام.
الإمارات ومصر عبر المواقف الرسمية لهما دعتا لترجيح كفة السلام والتهدئة في الأزمة الأوكرانية. وما قالته معالي السفيرة لانا نسيبة مساعدة وزير الخارجية والتعاون الدولي لدولة الإمارات، عن ضرورة وضع احتياجات الناس الفعلية في صميم الجهود، والإبقاء على سبل الحوار مفتوحة الآن أكثر من أي وقت مضى رغم الانقسامات العميقة مع تغليب الحكمة والخبرة، مع المطالبة باستخدام كل القنوات الدبلوماسية المتاحة لمنع المزيد من التدهور الإنساني في أوكرانيا، يلخص ماهية الموقف العقلاني الإنساني الوحيد الذي يمكن تبنيه في أتون هذه الحرب الصعبة. إنها سُنّة الإنسانية.
* كاتبة صحافية مصرية