الرؤية الموضوعية للأزمة الأوكرانية تتطلب المزج بين حاضرها وماضيها معاً.

صحيح أن الأزمة الأوكرانية الحالية هي امتداد لما حدث في العام 2014 من انقلاب سياسي وعسكري في كييف، وما تبعه من تدخل عسكري روسي وسيطرة على شبه جزيرة القرم، لكن ما نشهده في الأسابيع الأخيرة من تصعيد كبير هو صراع الآن على الخطوط الحمراء الروسية والأمريكية في القارة الأوروبية، وهو أيضاً شبيه إلى حد كبير بما حدث في فترة «الحرب الباردة» بين المعسكرين الشرقي والغربي عقب الحرب العالمية الثانية وانتهى بتوقيع اتفاقية يالطا التي وضعت خطوطاً حمراء لكل طرف إلى حين سقوط الاتحاد السوفييتي.

لقد كان العالم في مطلع حقبة الستينيات من القرن الماضي على شفير حرب عالمية بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي بسبب وضع موسكو صواريخ في جزيرة كوبا المجاورة للحدود الأمريكية، ثم انتهت هذه الأزمة الدولية الخطيرة بسحب هذه الصواريخ الروسية مقابل سحب صواريخ أمريكية من تركيا المجاورة للحدود الروسية. فلماذا كان من حق واشنطن الاعتراض على صواريخ روسية على حدودها ولا يكون لموسكو الحق الآن بالاعتراض على نشر الصواريخ و«الناتو» على حدودها!.

فهذا المزيج من حاضر الأزمة الأوكرانية وماضي العلاقات الروسية /‏‏‏ الأمريكية هو الذي سيحدد مصير ومستقبل أوروبا والعالم ككل. لكن ما الذي تريده واشنطن الآن من التصعيد الخطير في علاقتها السيئة مع موسكو، ومن سيكون المنتصر والمنهزم في الصراع الدائر الآن، وما هي معايير النصر والهزيمة لطرفي الصراع: روسيا والغرب؟

حسب تقديري، فإن واشنطن كانت تدرك أن القيادة الروسية ستقدم على عمليات عسكرية في أوكرانيا بعد رفض الإدارة الأمريكية للمسودة الروسية التي قدمها الرئيس فلاديمير بوتين ديسمبر الماضي، والتي جرى التفاوض بشأنها في جنيف، وحيث تزامن هذا الرفض الأمريكي مع تأكيد الرئيس جو بايدن عدم نية «الناتو» مواجهة القوات الروسية حينما تطلق عملياتها العسكرية في أوكرانيا.

في المقابل، نجد القيادة الروسية تؤكد مراراً الآن على استمرار العمليات العسكرية في أوكرانيا إلى حين تحقيق جملة مطالب هي: إعلان حياد أوكرانيا وضمان عدم دخولها حلف «الناتو»، وتعديل دستورها لتكريس الحياد وللاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين كدولتين مستقلتين، والاعتراف بأن شبه جزيرة القرم أرض روسية. وهذه المطالب لا يمكن تحقيقها عملياً بدون تغيير نظام الحكم الحالي في كييف والسيطرة العسكرية الروسية الشاملة على أوكرانيا. إذن، معيار «النصر الروسي» في الأزمة الأوكرانية هو تحقيق هذه المطالب والتي سيتم فرضها طبعاً طالما أن روسيا لن تفتح أي جبهة عسكرية أخرى في أوروبا، وطالما أن «الناتو» لن يتدخل.

على الطرف الأمريكي، سيكون معيار «النصر» هو عزل روسيا دولياً وعن أوروبا تحديداً، وإضعاف كبير للاقتصاد الروسي، وتشجيع المقاطعة لروسيا حتى في المجالات الفنية والرياضية كما بدأ يحدث أخيراً، إضافة إلى الدعم المالي والعسكري الكبير لمن سيقاومون القوات الروسية في أوكرانيا.

ويبدو أن المراهنة الأمريكية هي على إطالة الأزمة الأوكرانية وعلى استنزاف القوات الروسية فيها وعلى بقاء الأسباب الداعية لعزلة روسيا ومقاطعتها. فإدارة بايدن استفادت وتستفيد من تداعيات الأزمة الأوكرانية في المجالين الخارجي والداخلي، حيث أعادت واشنطن الآن اللحمة بين ضفتي الأطلسي بعد التصدع الذي حصل في ظل إدارة دونالد ترامب، كما أعادت الاعتبار لدور «حلف الناتو» في أوروبا. أيضاً، في المجال الخارجي، تريد واشنطن الآن توجيه رسائل عديدة للعملاق الصيني في قضية «تايوان» والدول الحليفة للولايات المتحدة في شرق آسيا.

أما على المستوى الداخلي، فالرئيس بايدن يريد في المواجهة السياسية والاقتصادية مع موسكو أن يُحسّن من مستوى شعبيته المنخفضة لدى الأمريكيين ومن فرص فوز حزبه الديمقراطي في الانتخابات النصفية المقبلة.

طبعاً، يتوقف ذلك كلّه على مدى صمود أطراف الصراع وعموم العالم أمام العواقب الاقتصادية الخطيرة لما يحدث الآن من صراع غربي/‏‏‏ روسي ستدفع شعوب كثيرة ثمناً باهظاً له!.