قال جدنا ابن خلدون، وهو أحد أهم جدود العقل المنير في التاريخ في مقدمة مقدمته: «أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال، وتُشد إليه الركاب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدى لنا شأن الخليقة كيف تقلب بها الأحوال، واتسع للدول النطاق فيها والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق».
التاريخ بهذا المعنى ليس هو الماضي، بل حركة البشر في نشاطهم المتنوع إما لصناعة الحضارة أو لتدميرها.
لا يمكن النظر إلى التاريخ بوصفه حركة عفوية فحسب، وإنما هو أنه ثمرة أفكار في الرأس أيضاً، أفكار تطرح ما يجب أن يكون عليه العالم، أجل إن التاريخ خليط من وحدة الإرادة والواقع والمصادفات السعيدة والمزعجة.
وتبرز التراجيديا التاريخية حين يكون هناك أفكار في الرأس تلعب دور المشنقة لإعناق الإمكانات، وللحيلولة دون ولادتها في الواقع، أو حين تكون أفكار رأسٍ خالٍ من جدل الإمكانية والواقع والإرادة. ولكنّ هناك فرقاً بين تراجيديا تاريخية تحقق في الواقع ما كان في رحم التاريخ، وهي التراجيديا الحقيقية، وتراجيديا الحمل الكاذب الذي تكون ضحيته الإرادة.
يضاف إلى هذين النمطين من التراجيديا وهم الإرادة الحمقاء التي تعتقد أنها قد تكون سداً أبدياً أمام مجرى التاريخ، وبخاصة حين يكون المجرى في حال الطوفان. إن الخراب الذي تولده الإرادة الحمقاء قد يفضي إلى نمط من الانحطاط الكلي إذا ما كانت تمتلك فضلات قوة متبقية من إرث عنفها الطويل في قتل أجنة التاريخ.
والإرادة الحمقاء نمط من الاغتراب الجماعي التخريبي، الاغتراب الذي يزين لهذه الإرادة تجميد العالم عبر القوة، في الوقت الذي لا تكون مهمة القوة هذه سوى تأخير انفجار الحياة.
تكمن حماقة القوة العمياء المتكئة على وعي تعصبي في توهمها بقتل معقولية التاريخ عبر انتصار عابر خلقته المصادفات المزعجة، ولا تدري أنها تحفر قبرها ببطء وهي في ذروة انتصارها.
فالقوة العنيفة الميليشاوية لا تستطيع أن تصنع واقعاً إنسانياً يقوم على أهمية قيمة الحياة الحرة، بل كل ما تفعله أنها تدمر جميع الطرق المعبدة نحو التطور والتنمية والبناء المادي والروحي للأوطان.
فليس هنا أخطر من الأوهام القاتلة على مسيرة التاريخ والحياة، وحمقى التاريخ القتلة سوى رؤوس قد حشيت بكل أشكال الأوهام القاتلة.
قد تستطيع إرادة حمقاء بما تمتلك من قوة أن تنتصر انتصاراً عابراً، لكن التاريخ لا يطيق المتطفلين على روحه ومنطقه.
وهناك نمط من حمقى التاريخ الذين تجاوزهم الزمن وما زالوا يعتقدون بقدرتهم على البقاء عبر تجميل الخراب الذي صنعوه، والقيام بتزييف الواقع عبر اللغة المنبتة المناقضة لحقيقة الواقع الخرب، أو القيام بإصلاحات شكلية، لتوهم الناس بانتمائها إلى الجديد في الحياة، متجاهلين الحقيقة الواضحة والمتميزة بذاتها، الحقيقة التي تقول إن تحريك الماء الراكد في المستنقع لا يجدد الماء الآسن ذا الرائحة الكريهة، الذي أصبح مرتعاً لأسوأ أشكال الجراثيم والأوساخ الحية، بل إن انفجار الينابيع وحدها يمنح الماء فرح الجريان.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني