كتبنا مرة عن موت اللغة، وقلنا بأن اللغة تموت حين تفقد علاقتها بالواقع وتغدو أداة تبرير وكذب وتزييف. تفقد اللغة روحها. ما هو روح اللغة؟
تتمتع كل لغة بروح خاص بها يميزها عن غيرها من اللغات، وروح اللغة هو ما تنطوي عليه اللغة من جمالية التعبير والعلاقة بين الكلمات في الجملة، والصياغات المتداولة، إنها الصورة والأسلوب، اللذان نفكر بهما، ولا انفصال أبداً بين روح اللغة وروح الشعب الذي أنتجها ويتداول بها ويعبر فيها عن عقله ومشاعره وحياته اليومية، أي لا انفصال بين روح اللغة والتفكير سواء كان التعبير باللغة الشفاهية أو باللغة المكتوبة. ومن يعرف أكثر من لغة يعرف في الوقت نفسه الفرق بين أرواح اللغات.
وروح اللغة المحكية اليومية نفسها مليئة بالصور والكنايات والاستعارات، يقولها المرء بشكل عفوي ودون تفكير بها، لأن روح اللغة، والحال هذه، صارت جزءاً من عادات الكلام.
المبدع في الأدب بكل أنواعه والفكر بكل أصنافه يثري روح اللغة، ويتحول إثراؤه هذا إلى وعي جديد بروح اللغة، فروح اللغة تتجدد دائماً، بتجدد التعبيرات عن موضوعات العقل.
فلا شك بأن روح لغة الخطاب المتعلقة بالحب ذات لغة مختلفة عن روح لغة الخطاب الفلسفي، وروح لغة الخطاب الفلسفي مختلفة عن روح لغة الخطاب الروائي، وهكذا.
الفكرة التي أدافع عنها هنا هي أن روح الإبداع هي ذاتها إبداع في روح اللغة، وروح اللغة هي صورة المعنى. ولأن روح اللغة حية، فهي متجددة باستمرار بتجدد الحياة الكلية، وتموت بموت الحياة الكلية، ولهذا ترافق عصر النهضة العربية ببعث الحياة بروح اللغة بعد أن خبت هذه الروح في عصر الانحطاط.
قد شهد القرن التاسع في أواخره وبداية القرن العشرين تجديداً في لغة الخطاب الأدبي والفكري والسياسي، بل إن النهضة ورواد النهضة قد جددوا في روح اللغة العربية، فلم يعد العربي يستسيغ الخطاب المسجوع والمتكلف، وراح إلى النثر المتحرر من روح السجع والطباق وما شابه ذلك. ولم يمضِ وقت طويل حتى اكتسبت اللغة العربية النثرية روحاً جديدة.
وروح اللغة، بهذا المعنى لا تستقر على حال، لأنها تعكس الأحوال في جريانها وجدتها وثرائها وموت ظواهر وولادة أخرى، غير أن تغير روح اللغة بطيء جداً، وهذا أمر من شيمة اللغات جميعها، كما يخضع لصراع الأجيال.
وهذا لا يعني إصدار حكم قيمة للحكم على روح اللغة عند هذا الجيل أو ذاك، فروح اللغة العربية في نثر الجاحظ وشعر المتنبي أزهر من روح اللغة في القرن الخامس عشر، بل يمكن أن نتحدث عن ازدهار الحياة بكليتها وازدهار اللغة وانحطاط الحياة وانحطاط اللغة. وباستطاعتنا اليوم أن نميز في المرحلة الواحدة بين تطور روح اللغة العربية وازدهارها في الأدب - النثر القصصي والشعر، وانحطاط الخطاب الخالي من روح العربية. واللافت للنظر أن روح اللغة حتى عند الشاعر نفسه تتغير بتغير الموضوع، فتراه يعود إلى روح اللغة القديمة إن كتب شعر المديح الفج وشعر السياسة المباشرة، فيما يبدع في شعر الوجدان، فالموضوعات القديمة لا تصلح معها اللغة المتجددة، وهكذا.
ولعمري إن أخطر ما يتعرض له روح اللغة هو التقليد وذم التجديد، وهذه معركة لا تتوقف في كل العصور.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني