لم يكن عام 2004 عاماً سهلاً على الإمارات وأهلها، ففي الثاني من شهر نوفمبر من ذلك العام، فقدت دولة الإمارات العربية المتحدة، قائدها ومؤسسها ومرسي لبناتها الأولى، المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه. ورغم أن الفقد كان كبيراً، والخسارة كانت فادحة، إلا أن مجيْء الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان مكانه حاكماً لإمارة أبوظبي، وانتخابه من قبل المجلس الأعلى للاتحاد رئيساً للدولة، خففا من وقع الفقد وفداحة الخسارة. ويوم الجمعة الماضي، منيت دولة الإمارات وأهلها بخسارة فادحة جديدة، هي انتقال الشيخ خليفة بن زايد، إلى رحمة الله تعالى، وهو الذي كان امتداداً لعهد الشيخ زايد، عليه رحمة الله، وإخوانه مؤسسي الاتحاد الأوائل.
كان الشيخ خليفة، عليه رحمة الله، من خريجي مدرسة الشيخ زايد، طيب الله ثراه، الأوفياء لفكره ومبادئه وقيمه وإنسانيته، وقبل هذا كله، حبه الكبير لوطنه وأهله وأمته، والإنسانية جمعاء. لهذا، مضى، عليه رحمة الله، على الطريق الذي اختطه الشيخ زايد، طيب الله ثراه، لنفسه ولأبنائه وأهل وطنه جميعاً، مرسخاً القيم العظيمة والمبادئ السامية التي أرساها الشيخ زايد، عليه رحمة الله، وأقام عليها البناء العظيم، الذي أنجزه قبل رحيله المؤلم.
ولأن الشيخ خليفة، عليه رحمة الله، كان الابن الأكبر للشيخ زايد، طيب الله ثراه، فقد عهد إليه منذ مراحل عمره الأولى، بمسؤوليات جسام، نهض بها أفضل ما يكون النهوض، في وقت لم تكن أمور الحياة فيها ميسرة، كما هي اليوم.
لذلك، فإننا حين نستذكر سيرة الراحل العظيم، نكبر فيه الهمة العالية، والحس الكبير بعظم المسؤولية التي ألقاها القائد المؤسس على عاتقه، في زمن كانت البلاد فيه تفتقر إلى مقومات الحياة الأساسية، وإن كان هذا لم يفتّ من عضد أبناء ذلك الجيل، الذين أدركوا أن هذه البلاد مقبلة على نهضة كبرى، لم تشهدها عبر تاريخها، وأن هذه النهضة المقبلة، بحاجة إلى جهد كبير، وإلى صبر وأناة، لم يكونا ينقصان أبناءها، وعلى رأسهم الشيخ خليفة، وإخوانه من شيوخ الجيل الثاني، الذين تولوا قيادة البلاد، بعد رحيل جيل المؤسسين الأول، فقادوها بحنكة كبيرة وسياسة رشيدة، ورؤية جمعت بين حكمة الكبار، وطموح الشباب، للحاق بالحضارة التي ركبوا العربة الأولى من قطارها، فانطلقوا بدولتهم إلى المراتب الأولى في شتى مناحي الحياة، وحققوا الإنجازات التي لم يسبقهم إليها أحد، حتى تحوّل هذا البلد، الذي كان العالم ينظر إليه ذات يوم، على أنه صحراء قاحلة، إلى جنة تجمع على أرضها بين أساليب الحياة العصرية الحديثة، وأصالة الماضي العريق، وقيم التعايش والتسامح التي زرعها فيهم المؤسسون الأوائل، فمضوا يسقون غرسها، ويمدون جذورها في أعماق الأرض، ليضمنوا لها الاستمرار والانتقال من جيل إلى جيل، دون خوف أو قلق.
لهذا، فإننا لا نجاوز الحقيقية، حين نصف الشيخ خليفة بأنه قائد مرحلة التمكين، فقد تسلم، عليه رحمة الله، مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي، وتم انتخابه رئيساً لدولة الإمارات العربية المتحدة، في وقت كانت الدولة فيه قد انتهت من وضع الأساسات المطلوبة لإعلاء صرحها، وتمكين بنيانها، فمضى، عليه رحمة الله، يقود مرحلة التمكين هذه، بحكمة ورثها من القائد المؤسس، وباقتدار وخبرة اكتسبهما من العمل مع ذلك الزعيم الفذّ والمعلم الكبير.
وقد وجد إلى جانبه إخوة مخلصين، وشعباً وفياً، أحبوه بقدر ما أحب الراحل العظيم إخوته وشعبه، ووطناً حفظ له أجلّ الأعمال وأجمل الذكريات، فكان جديراً بمن هو مثله أن يشعر الجميع بفداحة فقده، وأن يغمر الحزن قلوب قادة وشعب دولة الإمارات، والمقيمين على أرضها وخارجها، لهذا الحادث الجلل.
ما يعزينا في فقد الراحل الكبير، الشيخ خليفة بن زايد، عليه رحمة الله، أن خلَفه، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، أطال الله عمره، من أنجب أبناء مدرسة زايد وخليفة، عليهما رحمة الله. فقد كان عضُد أخيه، الشيخ خليفة، وشريكه في قيادة مرحلة التمكين هذه، وسيمضي بإذن الله قدماً في قيادة هذا البلد، إلى آفاق أرحب من الرخاء والنهضة والتقدم.
لهذا نقول للفقيد الكبير، طِبْ حياً وميتاً، فقد كنت خير خليفة لخير قائد، وستبقى في ذاكرة هذا الوطن المعطاء، ووجدان أبنائه، قائداً عظيماً وراحلاً مقيماً.