‏وأنا أسير في أحد الشوارع الرئيسية في دولة الكويت، فاجأتني لوحة مرورية صفراء كتب عليها «الزم مسارك»! وتساءلت في نفسي لماذا ألزم مساري؟ فلاحظت أن الشارع متعرج بسبب أعمال إنشائية ضخمة لتطوير البنية التحتية في البلاد. وتخيلت ما يجري أمامي كنموذج مصغر للحياة، فالدنيا مليئة بالمنعطفات، والصعوبات، والتغيرات المفاجئة؛ ولذلك يتطلب في كثير من الأحيان أن يلزم المرء مساره لينجو أو يصل إلى مبتغاه بأقل الأضرار.

‏والمسار قد يكون تخصصاً أو مجالات أو تجارة ما، نحسنها جيداً. وفي بعض الأوقات يكون تخصصك الذي تبحر فيه هو صنعتك التي تألقت فيها، فنحن نعلم أن التركيز والالتزام بمجال محدد قد يثمر بتطويرنا. ولذلك فإن الإبداع يبدأ بعد «عَتَبَة التركيز». فالإبداع يتألق بعد حالة من العمق أو التخصص في مسار واحد. ولو تدبرنا سير المبدعين نجد أن تخطي الصعاب برشاقة لافتة كان وراءه مسيرة طويلة من التركيز.

‏وهذا لا يعني أن يكون المرء أسيراً لأمر يتيم في حياة متغيرة. فصحيح أن التغير سنة الكون، لكننا نعيش في عالم متسارع يتطلب منا التشبث بأهداب طريق رئيسي في حياتنا حتى نتمكن من تقديم أفضل ما لدينا ومنافسة الآخرين بقوة؛ لأننا نرتكز على أمر نفهمه جيداً.

‏ولو أتينا إلى بيئة الأعمال نلاحظ أن أكثر الناس عرضة للتغيير السريع في وظائفهم عبر الدخول في قطاعات ليست ذات الصلة بمسارهم الرئيسي، ويغيرون مجالاتهم قبل فهم شيء يذكر فيها، هو أمر يشتت جهودهم. صحيح أن التنويع مطلوب ومحمود، لكنه لا يجب أن يكون على حساب المسار الوظيفي الأساسي حتى يتمكن المرء من أن يشق طريقه للنهاية بكل انسيابية، بحكم نعمة التخصص والعمق. فأفضل لاعبي الجمباز ومحترفي كرة السلة والقدم والرسم والفنون بشتى أنواعها تعلقوا بقوة التركيز في مسار محدد.

‏وفي العلاقات الاجتماعية يحق لنا أن نرفع الشعار المروري «الزم مسارك»، حيث يهدر الكثير منا تفكيره وأحاديثه بالانشغال بشؤون الآخرين التي لا تعنيه. ‏ولذلك قيل في الحديث النبوي «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»، فماذا يفيد المرء عندما يتتبع عثرات الناس وزلاتهم وكبواتهم ‏غير مزيد من الهم والغم. ولو انشغل الإنسان في مساره سيتمكن من الوصول إلى وجهته بسرعة أكبر. ولذلك تنصحنا اللوحة المرورية الإرشادية «بألّا ننشغل بغير الطريق».

وبالفعل ليس هناك أهم من التركيز على الطريق الذي نسلكه في هذه الحياة، لأنه هو ما سيحدد مصيرنا وخاتمتنا. فالناس في نهاية المطاف سوف تسألنا عن ماذا قدمنا وليس ما قدمه الآخرون وما قالوا، وهذا ما سيحدث في يوم العرض الكبير على رؤوس الأشهاد. ولذا قال الشاعر أحمد شوقي:

الناس صنفان موتى في حياتهم

وآخرون ببطن الأرض أحياء.