ظهرت أولى المطابع الخليجية في المنامة عام 1913 باسم «المطبعة الحجرية» على يد الحاج أحمد عبد الواحد فلامرزي وشريكه الحاج ميرزا علي جواهري، وتلتها في عام 1934 «مطبعة البحرين» لصاحبها الأديب عبدالله الزايد. وفي وقت متزامن تقريباً ظهرت «المطبعة السلفية» بمكة لصاحبها محب الدين الخطيب، لتنضم إلى مطابع الحجاز الأخرى التي ظهرت أولاها زمن العثمانيين عام 1882. وفي الكويت أسس عبد العزيز الرشيد أول مطبعة سنة 1928.

أما الإمارات فلم تعرف المطابع إلا في أواخر خمسينيات القرن الماضي، حينما أسس الكويتيان رضوان محمد الرضوان وأخوه أحمد «مطبعة الرضوان» بدبي عام 1958، وعهدا بإدارتها لابن عمهما محمد عبدالله الرضوان. ويعزي الباحث الإماراتي الدكتور عبدالله الطابور ــ في كتابه «رسائل الرعيل الأول من رواد اليقظة في الإمارات» ــ سبب هذا التأخير إلى تأخر دخول الكهرباء إلى الإمارات لعدم اهتمام الإنجليز كثيراً بالمرافق الخدمية. وهكذا تولت مطبعة الرضوان طباعة الجريدة الرسمية لإمارة دبي والمستندات الخاصة بالحكومة والبنوك والأعمال التجارية، كما غطت احتياجات كل الإمارات الأخرى وبعض المدن والقرى الواقعة على ساحل الخليج العربي.

أما المطبعة الثانية في الإمارات فقد كانت «المطبعة العمانية» التي أسسها السيد هاشم رضا الهاشمي سنة 1959، بمعاونة أخيه السيد علي الذي كان مهندساً ميكانيكياً، وسماها بهذا الاسم نسبة إلى ساحل عمان، وقد اتخذت من بناية التاجر «علي القيزي» في دبي مقراً لها لمدة 14 عاماً قبل انتقالها سنة 1973 إلى مقر جديد بشارع سكة الخيل. وكان القيزي صاحب فضل على هذه المطبعة وصاحبها لأنه لم يكن يتقاضى منها سوى إيجار رمزي وذلك من باب دعم أهدافها النبيلة. أما أصحاب مطبعة الرضوان فقد كانوا خلاف ذلك. إذ استبد بهم الجشع وخافوا من المنافسة فراحوا يطالبون حكومة دبي بعدم السماح بتأسيس المطبعة العمانية، لكن الحكومة ردتْ عليهم بالقول «إن الباب مفتوح لمن يرغب في تأسيس دور الطباعة دون قيود». وأخبرنا المؤرخ عبد الغفار حسين في مقال منشور في صحيفة الخليج (15/‏6/‏2016) أن أول كتاب تولت المطبعة العمانية طباعته هو ديوان الشاعر الشعبي الإماراتي بن ظاهر في يناير 1963 على نفقة المغفور له الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم، طيب الله ثراه.

والحقيقة أن الهاشمي في مشروعه الوطني التنويري هذا واجه الكثير من العقبات، فكتب عن مطبعته قائلاً: «عاشت سنوات عجافاً تلعق جراحها وتمتص رحيق مدخراتها»، والسبب، طبقاً للطابور «عدم توفر الكهرباء لتشغيل مكائن الطباعة». وقد حاول الهاشمي أن يتغلب على المشكلة بتزويد مطبعته بماكينة كهرباء خاصة بها إلا أنها لم تؤد المهام المطلوبة منها كما يجب. واستمرت الأحوال على هذا النحو إلى أن تم تزويد دبي بطاقة كهربائية كافية لسد كل الاحتياجات في منتصف الستينيات. هنا فقط تنفس الهاشمي الصعداء وراح يعمل على طباعة الكتب الأدبية والدواوين الشعرية وغيرها من المؤلفات، فصار للمطبعة العمانية وصاحبها فضل على البلاد، وهذا تحديداً ما أشار إليه الشيخ محمد بن علي المحمود حينما خاطب الهاشمي شعراً فقال:

أنشأت للأعمال خير مـــكان... وجمعت فيه محاسن الاتقان

وأعدت مجدا للمطابع هاشم... تزهو به الدنيا على الأزمان

فاهنأ بدار أقيمت بالتقــــــى... يابن الرضا والسيد العدنانـي

والجدير بالذكر أن أخاً للهاشمي هو «يعقوب رضا الهاشمي» قام هو الآخر بدخول مجال الطباعة فأسس ثالث مطبعة وطنية في الإمارات، وهي «مطبعة الساحل»، وكان موقعها على شارع البرقيات القديم في بر ديرة، ثم أسس مطابع أخرى في أواخر ستينيات القرن العشرين مثل «مطبعة دبي» بالاشتراك مع خليفة النابودة، و«مطبعة البلاد» بالاشتراك مع سلطان الحبشي.

وقبل أن نتوغل في سيرة السيد هاشم صاحب ومؤسس ثاني مطبعة في الإمارات وأكثرها تأثيراً لجهة نشر الثقافة والأفكار المستنيرة، لابد من الإشارة إلى أنّ أصول الرجل تعود إلى لنجة. وهي من البنادر التي حكمها القواسم وسكنتها قبائل عربية عدة هاجرت من الجزيرة العربية قديماً لأسباب سياسية واقتصادية. ومن ضمن من هاجر إليها السادة الهاشميون، الذين ينتمي إليهم السيد هاشم بن السيد رضا الهاشمي، وهم ــ طبقاً للمؤرخ والأديب الإماراتي المعروف عبد الغفار حسين ــ أسرة الشرفاء العلويين المنتشرين في اليمن والحجاز وعلى امتداد ضفتي الخليج.

كانت أسرة السيد هاشم الهاشمي تقيم في رأس الخيمة، لكنها في بدايات القرن 18 انتقلت إلى لنجة مع أعداد كبيرة من القواسم بقيادة الشيخ قضيب بن راشد بن مطر القاسمي الذي حكمتْ أسرته لنجة مذاك وحتى أواخر القرن 19 حينما قام الإيرانيون بمحاصرة لنجة وإنهاء الحكم العربي فيها. وتقول المصادر التاريخية إنّ جد السيد هاشم وأباه وأعمامه حاربوا جميعاً إلى جانب الشيخ محمد بن خليفة القاسمي (آخر شيوخ القواسم في لنجة) ببسالة من أجل الحفاظ على الحكم العربي في الضفة الشرقية للخليج.

في أعقاب سقوط لنجة بيد الفرس ومغادرة آخر شيوخ القواسم إلى الضفة الغربية للخليج، ضاقت الدنيا بوالد السيد هاشم وأعمامه يوسف ويعقوب ومحمد، خصوصاً بعد أن تبين لهم أن لا جدوى من المقاومة وأن الكفة تميل بقوة نحو الفرس، فاستولوا على إحدى السفن بقوة السلاح وغادروا بواسطتها إلى رأس الخيمة، ومنها إلى الشارقة، ثم إلى دبي. وبالعودة إلى السيد هاشم (محور حديثنا)، نجد أنه ولد في دبي سنة 1909، والتحق في عام 1926 بمدرسة السعادة التي افتتحها التاجران محمد بن عبيد البدور، ومحمد بن سيف السركال في ذلك العام، ومنحا إدارتها إلى الشيخ محمد اليماني الذي كان وقتذاك من العلماء القلائل المتميزين بسعة العلم والثقافة والأسلوب الفريد في التربية والتعليم.

في مدرسة السعادة، التي كانت من المدارس شبه النظامية المشهورة في دبي، زامل السيد هاشم الشيخ محمد بن علي المحمود الذي قال إن اليماني كان يولي اهتماماً خاصاً بالرجل لمـّا تأكد من صلاحه والتزامه بالطاعة وتقديره للنصيحة وحبه للعلم وسرعة بديهته، ناهيك عن عراقة نسبه وحسن أدبه وقوة عزيمته، الأمر الذي صار معه السيد هاشم من جلساء اليماني والمقربين إليه، فكان ذلك سبباً في صقل موهبته واحتلاله موقعاً خاصاً بين طلبة العلم قبل أن يتولى مهمة التدريس على نحو ما سيأتي.

أورد الطابور في كتابه آنف الذكر شيئاً من صفات السيد هاشم نقلاً عن الأستاذ عبد الغفار حسين فكتب: «إن من صفات السيد هاشم أنه من الشخصيات الظريفة التي لا يملها جلساؤها، وحديثه وكلامه كانا من أمتع ما يسمعه الإنسان، وهو ذو لغة غاية في الأناقة والجمال، ويتميز بأنه كاتب حلو العبارة، ويكتب بلغة عربية سليمة يعلوها سجع جميل». فلا غرو بعد ذلك لو عرفنا أن مجالسه كانت مزدحمة على الدوام بكبار الوجهاء والمسؤولين والشيوخ وطالبي العلم والمعرفة.

ومما لا شك أن هذه الصفات والملكات التي تحلى بها السيد هاشم قربته من الشيخ مانع بن راشد آل مكتوم الذي عـُـرف عنه في ثلاثينيات القرن العشرين تشجيعه للعلم والمتعلمين، ودعمه ومشاركته في حركة التأليف وطباعة الكتب، ودعوته إلى تحديث طرق ووسائل العلم والتعليم، وميله إلى الأدب ومساندة المجلات العربية الصادرة آنذاك. والدليل نستقيه مما حدث في عام 1932 حينما رشح الشيخ مانع السيد هاشم ليترأس البعثة التعليمية التي تقرر إيفادها إلى العراق على نفقة الوجيه الكويتي عبدالله الصقر، خصوصاً وأن السيد هاشم كان قد درس لمدة عامين في المدرسة الرحمانية بالبصرة. غير أن سلطات الحماية البريطانية عارضت هذه البعثة وعطلتها .

في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين لم تكن في إمارة رأس الخيمة من دور العلم سوى الكتاتيب التقليدية، فقرر حاكمها وقتذاك الشيخ سلطان بن سالم القاسمي أن يقيم أول مدرسة شبه نظامية لتعليم القراءة والكتابة والحساب والنحو والصرف والفقه والأناشيد، واختار منزله كمقر لها، وجاء بالسيد هاشم من دبي ليكون مشرفاً ومدرساً بها. وبالفعل فتحت المدرسة أبوابها عام 1932 بحوالي سبعين طالباً تحت إدارة وإشراف السيد هاشم ومساعدة عبدالله بن راشد السراح وعبيد بن راشد بالعضب والشيخ محمد عبد الرحمن حافظ الأنصاري، وبدعم من الشيخ علي المحمود الذي وفر لها مستلزماتها من القرطاسيات.

ظل السيد هاشم يعمل بهذه المدرسة ويقيم في رأس الخيمة مدة سنتين عاد بعدهما إلى دبي لممارسة التجارة وتأسيس المطبعة العمانية على نحو ما ذكرنا آنفاً، وذلك لأن المدرسة أغلقت أبوابها وأقيمت بدلاً منها مدرسة جديدة باسم «مدرسة بن غريب» نسبة إلى مؤسسها «يوسف بن محمد بن غريب». والحقيقة أن المطبعة العمانية كانت أكثر من مجرد مطبعة، إذ وصفها الكثيرون بأنها كانت عبارة عن منتدى ثقافي يلتقي فيه المثقفون والأدباء والشعراء. من هؤلاء الأديب الصديق معالي محمد المر، رئيس مجلس أمناء مكتبة محمد بن راشد، الذي كان من تلامذة السيد هاشم. وكتب قائلاً: «إن مجلس السيد هاشم من المجالس الأدبية اللطيفة. ففيه تسمع نقاشاً حول قضية دينية أو حديثاً عن طرفة أدبية أو كلاماً عن حادثة تاريخية». انتقل السيد هاشم إلى جوار ربه في 6 أكتوبر 1988 بعد أنْ أعطى وطنه ومواطنيه الكثير من جليل الأعمال وصالحها.