«أتقنت في أفريقيا ثلاثة فنون، فن الصمت، وفن قراءة الأشخاص، وفن استباق الأحداث، تلك الفنون التي طالما سمعت عنها في طفولتي، ولم ألامسها واقعاً ومعنى، إلا بعد أن شقت تلك الفنون طريقها إلي، لتأخذني إلى عوالم عدة، عوالم حاولت قهري، فأسقطتها بصمتي، وسعت لاستقطابي، فواجهتها بواقعيتي، وراهنت للوصول معي لحل وسط، فأفقدتها القدرة على التفاوض، وخرجت من كل ذلك مُحمّلة بحقيقة ثابتة، مفادها أن معركة الحياة الحقة، تكمن في اختيار المرء بين أن يكون له ثمن، أو أن تكون له قيمة»، تلك كانت بداية كلامي، مع المفكر الراحل الدكتور منصور خالد، في حديث طويل، جمعني به في العاصمة السودانية الخرطوم في شتاء عام 2016، عندما سألني حينها ما هي أدواتك الخاصة التي جعلتكِ تستبقين ما يحدث اليوم في وسط وغرب القارة الأفريقية، أهي رؤية باحث صقلته قسوة الحياة في قارتنا لمدة عقد كامل، فأصبح يرى الأمور كما ينبغي أن يراها؟ أم هي رؤية سياسي أتعبه شغفه تحليلاً، فأبي إلا أن يكون واقعاً؟

تبدو دول الشرق والوسط والغرب الأفريقي، هي الأقرب لتحليلي السياسي، بحكم إقامتي الممتدة فيها، وارتباطي الميداني البحثي فيها منذ عام 2009 حتى اليوم، وهو ذات السبب الذي جعلني أقرأها من الداخل، وأقول إنها تعيش اليوم تحولات سياسية غاية في الأهمية، وتلك التحولات لم تكن وليدة لحظة، بل سبقتها إرهاصات نفسية، تركت آثارها عمقاً في المزاج الأفريقي، ودفعت تلك الشعوب دفعاً لتغيير واقعها، واجتثاث ذلك الركام البالي، الذي ابتلت به أفريقيا جنوب الصحراء منذ عقود.

نجحت معظم الدول الأفريقية في الحفاظ على سيادتها الوطنية، بإبعاد شبح انفصال أقاليمها الساعية للاستقلال عن الدولة المركزية، ونرى ذلك واضحاً في السنغال، التي أحكمت سيطرتها على إقليم كازامانس، وقدرة نيجيريا على منع أي محاولة حقيقية لاستقلال بيافرا، ومثلها في الكاميرون، التي تصدت بكل حزم في أمبازونيا، رغم شراسة الميليشيات الانفصالية فيها، إلا أني لا أرى أن إحباط تلك المحاولات الانفصالية، يعود لقوة الدولة المركزية الأفريقية في تلك الدول، بمقدار ما هو توافق أجمعت عليه الأطراف الدولية الفاعلة في القارة الأفريقية، والتي لا ترى حتى الآن على الأقل في استقلال تلك الأقاليم عاملاً مجدياً، قد يعود إليها بالنفع، خاصة مع تنامي التنافس الإقليمي والدولي في وسط وغرب القارة الأفريقية، وهذا ما أشرنا إليه قبل حدوثه بعام، في مقال سابق بصحيفة «البيان»، حمل عنوان «توغولاند.. مساعٍ انفصالية تحكمها الظروف الدولية»، وجاءت اليوم الإرادة الدولية الرافضة لاستقلال الأقاليم في أفريقيا، متوافقة مع رؤية معظم النخب الأفريقية التي ترى في مسألة انفصال أقاليمها عن دولها المركزية، قنابل موقوتة، ستعمل على إعادة تشكيل الخارطة السياسية للقارة الأفريقية، وهذا ما يثير رعب تلك النخب، ولكن ما يثير إعجابي، هو أن تلك النخب، باختلاف توجهاتها السياسية، تجمع على أن الرؤية الدولية لتلك الأقاليم، قد تتغير وفقاً لما تقتضيه مصلحة الأطراف الدولية، والتي باتت تدرك أن ارتفاع الوعي السياسي في الشارع الأفريقي، وتعدد الوسائل والأدوات للتعبير عن الرأي، وسهولة تكوين الأحزاب السياسية في أفريقيا، لمواجهة السلطة، كلها تحديات ستقف حائلاً قوياً ضد التأثير، أو حتى التقارب مع المزاج الأفريقي، الذي لم يعد كما كان أبداً، وهذا ما يفسر استخدام تلك الأطراف ورقة الأقاليم الانفصالية، تارة بالتلويح بها لخلط الأوراق، وإرباك استراتيجية الأمن والسلم، التي تحاول أفريقيا بشق الأنفس، المحافظة عليها، وتارة كورقة ضغط على الدولة الأم، إما لإعادة ترسيم حدودها مع جيرانها، وخلق دولة جديدة منبثقة من ذلك الإقليم، وإما لتمرير صفقة ما، وهذا ما يحدث اليوم.

 

* باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي