تضم كليات العلوم الإنسانية في جامعات الوطن العربي مئات الأكاديميين الذين يمارسون التدريس والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه وتأليف الكتب المدرسية. إنهم يمارسون مهنتهم، وهي من المهن التي تنشئ الكوادر المتعددة التي يحتاجها المجتمع والمؤسسات التعليمية والثقافية والصحفية.

لكن بقاء الأكاديمي داخل قاعات الدرس وحرم الجامعة حرمان المجتمع، كل المجتمع، من تحويل معرفته إلى خطاب يخلق المعرفة لدى أفراد الشعب، والضن على القارئ بما يمتلك من مناهج علمية في تناول المشكلات المعيشة بكل أنواعها.

في الوقت الذي نرى فيه انشغال المثقف العربي بحركة التاريخ اﻵني والطريقة التي يعبر بها عن الهم الوجودي الذي انغمس به. ولقد لاحظت أن مفكري الحداثة ومعظم المثقفين هم أكثر النخب انخراطاً وبوعي متقدم في حركة التاريخ ناهيك عن انحيازهم للجديد. بل إن نمط عيشهم البسيط وحياتهم اليومية بين الناس وطقوس لقاءاتهم في الأماكن الشعبية والمقاهي العامة ونشاطهم الذي لم ينقطع في الكتابة والقول كل ذلك يمنحهم حضوراً وقوة تأثير. بل إن معظم المبدعين العرب وفي كل صعد الإبداع الجمالية والفكرية قد أكدوا هشاشة وفقر أغلب المنتمين إلى الوسط الأكاديمي العربي. وبخاصة هشاشة وفقر الأكاديميين الذين أنفقوا عمرهم محاولين جمع الثروة صامتين.

ويبدو لي أن الأكاديمي العربي عموماً ينظر إلى ذاته كخزان معلومات ويقدمها بوصفه اختصاصياً لقاء أجر، وﻻ ينظر إلى نفسه مثقفاً عضوياً بالمعنى الغرامشاوي للكلمة.

مع أن الأكاديميين وأقصد أساتذة الجامعات من ذوي الاختصاص بالعلوم الإنسانية والمباحث الأدبية هم أكثر الناس قدرة -نظرياً- على رفع اللحظة المعيشة إلى وعي يلهم الممارسة العملية ويساعدها على الانتصار فتتحقق وحدة الممارستين العملية والنظرية.

ويجب استغلال وسائل الاتصال والتواصل من أجل تحقيق ذلك. بل وﻻحظت غياب الأكاديميين عن الكتابة حتى في وسائل التواصل. وإن وجد قليل منهم فإن بعض هذا القليل يوجد بشكل عامي مبتذل. ونصيحتي أن البقاء في الظل والبقاء داخل جدران قاعة المحاضرات خير من هذا الظهور المتأخر في الحياة وعلى هذا النحو المبتذل. طبعاً أنا لا أساوي بين المبدع فيلسوفاً، شاعراً، رساماً، روائياً، مسرحياً، موسيقياً.. إلخ، وبين الأكاديمي الفقير- والمفيد- ولا أشك في تلقين المعرفة لكن للأكاديمي هيبة لدى الناس وفي العالم يجب أن يضعها في خدمة صناع التاريخ الجديد.

والحق إن ترك وسائل التواصل الاجتماعي من «الفيسبوك» إلى «التويتر» إلى «اليوتيوب».. إلخ، للمشعوذين والجهلة وأهل الخرافات وأيديولوجي التسلية أمر في غاية الخطورة، وآية ذلك لأن كل من سبق ذكرهم صاروا مراجع للجهل ومصادر للأوهام من كل الأنواع.

ولقد جاء حين من الزمن قام فيه جيل من الأكاديميين العرب بدور مهم جداً في إغناء الحياة الثقافية العربية، ومازال هناك أكاديميون عرب، على قلتهم، مهمومين بمشكلات العرب بكل أنواعها، لكن ظاهرة غياب الأكاديمي صارت واضحة.

ولهذا يتساءل القارئ العربي اليوم أين المثقف الأكاديمي أو الأكاديمي المثقف؟

والأكاديمي المثقف هو بالتعريف ذاك العقل الذي امتلأ بالمعرفة وراح يوظفها في خدمة الهم الوطني والاجتماعي دون أن يكلفه أحد بذلك.

ففي الجامعة يصنع الأكاديمي الأجيال المتخصصة، وفي المجتمع يصنع الأكاديمي الثقافة الروحية التي ترتقي بالوعي والسلوك، وتحصن العقول من أن تقع في هاوية الأوهام من كل أنواع الأوهام.

فحياتنا العربية اليوم معركة من أجل التقدم والارتقاء والسعادة والانتصار على العنف وأيديولوجيا العنف.

ومن هنا تبرز أهمية خروج أكاديميي العلوم الإنسانية والأدبية من قواقعهم في الجامعة والنزول إلى الحياة بكل ثرائها، ليتحولوا إلى خالقي وعي عقلي وثقافة نيرة.