يوماً تلو الآخر تفتر مداخلات الوسطاء الساعين إلى وقف الحرب في أوكرانيا، عبر أساليب التفاوض والبحث عن حلول مرضية لأطرافها المباشرين وغير المباشرين. ومؤخراً تعززت التقديرات التشاؤمية لصيرورة هذه الحرب بالنظر لآراء عدد من كبار الساسة الغربيين، كحديث ينس ستولتنبرج أمين عام حلف الناتو، الذي جاء فيه أن الحرب قد تستمر لسنوات.

في هذا الإطار، الذي لا يبشر بنهاية منظورة للقتال الدامي في الميدان، وتزيد فيه فرص توسع التهاب خطوط التماس بين روسيا من جانب وبين المنظومتين الأشهر لعالم الغرب، الناتو والاتحاد الأوروبي من جانب آخر، يصعب إلى حد كبير إطلاق توقعات ذات مصداقية بشأن الصورة أو الخريطة الجيوستراتيجية التي سينتهي إليها الوضع على الصعيد القاري الأوروبي، وبالتداعي على الصعيد الدولي. لكن السوابق والخبرات تسمح بقراءة عامة لمآلات هذا الوضع، مفادها أن عالم ما بعد حرب من هذا القبيل لن يكون أبداً نسخة كربونية لما كان قبلها، لا داخل الرحاب الأوروبية ولا خارجها.

نتيجة كهذه تبدو أمراً بديهياً بالنسبة لشرّاح العلاقات الدولية وفقهائها، ومع ذلك فإن معظم هؤلاء الشراح لا يغامرون بطرح رؤى أو توقعات تفصيلية تتجاوز التعميم والخطوط العريضة، لما يمكن أن يؤول إليه عالم اليوم التالي لهذه الحرب. وبناءً على هذه الخلفية، ربما حاز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قصب السبق، كونه ردد غير مرة ما معناه بإيجاز أن العالم لن يعود بعد اليوم أحادي القطبية، قاصداً بذلك الاستعداد لأفول زمن الانفراد الأمريكي بعرش النظام الدولي.

من العقلانية بمكان أن ينشغل المعنيون في جهات الدنيا بتداعيات هذا التصور على مستقبل التجربة الاتحادية الأوروبية، أولاً لأن صاحبه يحمل أهم مفاتيح الحرب والسلام في أوكرانيا ومحيطها الأوروبي القاري اللصيق كحد أدنى، وثانياً لأن اهتزاز مكانة القطب الأمريكي لن يمر بلا تأثيرات جوهرية على كيانات شركائه الأوروبيين وأحوالهم.

الاستدلال بالتاريخ القريب يوحي بأن التجربة الاتحادية لجيراننا في شمال المتوسط تعرضت لأكثر من محنة خلال العشرية الأخيرة، وأنهم للإنصاف تمكنوا من الإفلات من جرائرها الموحشة وتعويم منظومتهم والحفاظ على قوامها ومكانتها. كانت أولى هذه المحن الضائقة الاقتصادية المالية، التي أخذت بخناق بعض أعضاء الاتحاد في جنوب القارة، اليونان بالذات، التي انقسمت في مواجهتها الآراء بين من فضلوا تقديم يد العون، المكلف جداً، لانتشال الشركاء الأفقر نسبياً، وبين المترددين المتأففين من اتجاه المساعدة السخية، كي لا يشكل ذلك تقليداً يركن إليه هؤلاء الشركاء «الكسالى» أو غيرهم.

لم يكد الغيورون على الاتجاه الاتحادي يتجاوزون هذه الأزمة، بإقناع الأغنياء، كألمانيا وهولندا وبلجيكا، بتحمل مزيد من الأعباء، حتى بوغتوا بمحنة الإصرار البريطاني على الخروج كلياً من التجربة.

ومن المعلوم الآن كيف كان هذا التوجه، ثم تطبيقه بالفعل، بمثابة اختبار للثقة في الفكرة الأوروبية برمتها، وكيف بذل الاتحاديون جهوداً جبارة قبل أن يفلحوا في تلافي أثر عدواه، لا سيما بين يدي القوى الشعبوية والقومية الشوفينية، التي راحت تتفشى في أرجاء القارة.

بالتزامن مع أزمة البريكست، كان على الأوروبيين التعامل مع عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي شهد حالة غير مسبوقة من التنمر بحقهم والاستعلاء عليهم، ومحاولة تشتيت جمعهم بتشجيع التوجهات الانفصالية، على نحو ما جرى عملياً مع الحليف البريطاني. ولا يبالغ كثيراً من يدرج هذه الحالة وتوابعها ضمن مسلسل المحن، التي تعين على الكيانات الأوروبية الاتحادية مواجهتها بالقدر الذي يصون صلابتها الذاتية، ولا يشكل قطيعة مع الشريك الحضاري الأكبر على الجانب الآخر من الأطلسي.

هذا التلازم في التصدي لمحنة البريكست مع معالجة أزمة التغاضب الناعم مع واشنطن، تكرر على نحو ما خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، ذلك حين كتب على الأوروبيين مواجهة تداعيات الحرب الأوكرانية على تخومهم الشرقية، في الوقت الذي لم يكونوا قد تعافوا فيه تماماً من تبعات وباء كوفيد 19.

في كل حال، يصح الاعتقاد بأن الأوروبيين أظهروا قدراً كبيراً من الحكمة، حين تمكنوا خلال ما لا يزيد كثيراً على السنوات العشر من اجتياز اختبارات وتحديات، بدا بعضها عصياً على الحل، من دون تعريض تجربتهم الفذة لخسائر جسيمة، لكن هذا الاعتقاد لا يجب أن يغرينا بالاطمئنان إلى أنهم قادرون بالضرورة أو الحتمية على تخطي توابع الحرب في أوكرانيا. هناك أسباب كثيرة تدعو لهذا التحفظ، لعل أبرزها أنهم إزاء واقعة شديدة الخشونة والسخونة، يرى طرفٌ كبير من المنغمسين فيها أنها ستفضي، أو ينبغي أن تفضي إلى تغييرات جذرية في المشهد الأوروبي، بل وفي هيكلية النظام الدولي بقضه وقضيضه.

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني