قبل أيام قليلة طالعنا خبر اختراق حسابات عسكرية عدة على وسائل التواصل الاجتماعي. الحسابات العسكرية ليست لدولة نامية هنا أو كيانات مهلهلة هناك، الحسابات تابعة للجيش البريطاني. نزل الخبر كالصاعقة، فاختراق المواقع العنكبوتية المختلفة صار أمراً واقعاً قابلاً للحدوث، وتعرض حسابات الـ«سوشيال ميديا» المختلفة لمحاولات السرقة أو الاختراق أو المراقبة وارد، لكن غالبية المصدومين من الخبر كانوا يعتقدون أن المواقع القابلة للاختراق لا بد أن تكون لشركات صغيرة لا تملك من أمر تأمين نفسها الكثير، وأن الحسابات المعرضة للاختراق لا بد أن تكون لأشخاص مهما بلغوا من حنكة في تأمين صفحاتهم يظلوا أفراداً في نهاية المطاف.
لكن انتهى المطاف بالمتابعين لما جرى لنتيجة واقعية مفادها أنه لا حسابَ أو صفحة أو موقع في مأمن تام وكامل، مهما بلغ من حنكة رقمية وخبرة تقنية. سيبقى الصراع والسباق محتدماً محموماً بين خبراء التأمين العنكبوتي ومن يمثلونهم من أصحاب المواقع والحسابات من جهة، وبين متخصصي ومحترفي وهواة السرقة والاختراق الافتراضيين.
الاختراق أحرج بريطانيا كثيراً، فقد ظهرت مقاطع فيديو عن العملات الرقمية المشفرة وصور الملياردير الأمريكي إيلون ماسك على قناة «يوتيوب» الخاصة بالجيش، وأعاد حسابه الرسمي على «تويتر» نشر تغريدات خاصة بـ«إن إف تي»، وهي تكنولوجيا التوثيق الرقمي، وتعني الرموز غير القابلة للاستبدال أو «Non fungible token» غير القابلة لاستبدال أي قطعة بأخرى، ويتم تحريرها بموجب عقد تحدد بنوده شفرة معلوماتية لسلعة قد تكون افتراضية أو حقيقية. ولعل أشهر وأغلى ما بيع عبر مزادات استخدمت فيها «إن إف تي» أول تغريدة لمؤسس «تويتر» جاك دورسي، التي بيعت بـ2.9 مليون دولار.
وإذا أضفنا إلى هذا العالم الغريب الذي بات يتقن قواعده البعض، ويحاول البعض الآخر اللحاق بهم على سبيل التأمين أو الاستفادة أو حتى بغية القيام بأعمال الشر والسرقة والاختراق، أن نسبة كبيرة وآخذة في النمو والتوسع من الكيانات الاستراتيجية والحيوية في دول العالم تقوم بتخزين معلوماتها على متن الشبكة العنكبوتية، فإن هذا يعني أن القادم سيبراني بامتياز.
لكن القادم قدم بالفعل. منافعنا آخذة في التعاظم بفضل الإنترنت وما تتيحه من منصات وأدوات وآليات جعلت من التعليم والصحة والتواصل والخدمات الحكومية والصفقات والمعاملات المالية وغيرها في متناول يد مستخدم الإنترنت، لكن الأخطار التي تحدق بنا أيضاً آخذة في التعاظم، ويخطئ من يعتقد أنه وصل إلى أقصى أو آخر محطات الوقاية والتأمين.
الأمن السيبراني لم يعد رفاهية أو اختياراً أو حتى فرعاً من فروع العلم العصيّة على الخوض والممارسة والاحتراف، بات واقعاً ومكوناً رئيساً لمن أراد أن يؤمن نفسه أو عمله أو شركته أو مؤسسته أو وطنه أو كل ما سبق.
قبل أيام أيضاً، كشف الستار عن ما يعتقد أنها من أكبر التسريبات العنكبوتية في تاريخ الإنترنت. اتضح أن قاعدة بيانات ضخمة جداً تحوي معلومات شخصية عن نحو مليار مواطن صيني ظلت متاحة على الإنترنت دون حماية لما يزيد على عام. ويبدو أن أحد قراصنة الإنترنت اكتشف الكنز الثمين، فعرض بيعه لمن يرغب، وأعلن على أحد منتديات القراصنة عن بيع ما يزيد على 23 تيرابايت من البيانات بنحو 10 بيتكوينات، أي نحو 200 ألف دولار.
لذلك، فإن التخطيط لليوم والغد القريب ينبغي أن يتضمن الأمن السيبراني مكوناً رئيساً، ومعه تأتي جهود التوعية الاجتماعية وتجديد الخطاب التعليمي وتحديث الوعي المجتمعي، لا لمواكبة جهود القراصنة والمخترقين والسارقين، ولكن لاستباقهم وضمان بقائهم بعيداً عن المقدمة في معركة الأمن الافتراضي.
وبالصدفة طالعت خبراً يفيد فتح باب التسجيل لبرنامج «قيادات الأمن الإلكتروني»، وذلك ضمن عمل «هيئة دبي الرقمية»، متمثلة في «مركز دبي للأمن الإلكتروني». البرنامج الذي سيبدأ قريباً في تدريب وتأهيل دفعة ثانية من قيادات الأمن الإلكتروني برهان على تبني دبي مبدأ تعزيز الاستثمار في الأمن السيبراني، وهو ما يفسر كذلك جزءاً من سر تحقيق دبي المرتبة الأولى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والرابعة على مستوى العالم في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر لقطاع الأمن السيبراني.
منظومة الإنترنت بخدماتها وإمكاناتها وأدواتها وقدراتها ومحتوياتها تعني وتستوجب وتحتم تأميناً تقنياً مناسباً، وهذا يعني كوادر مؤهلة وإرادة سياسية متوفرة وقدرة تخطيطية على استشراف المهارات والقدرات المطلوبة، وهذا يعني أيضاً وعياً اجتماعياً بأن سوق العمل لا يحتاج فقط أطباء ومحاسبين وصحافيين، لكن يحتاج متخصصين في الأمن السيبراني بأنواعه، وهذا يعني أن التعليم بالضرورة في حاجة إلى تحديث مستمر لمواكبة وتلبية احتياجات سوق العمل، وهذا يتطلب إعلاماً واعياً بمتغيرات سوق العمل وقاعدة التأمين ومبادئ الحماية. سلسلة الوعي بالأمن السيبراني، سواء الوطني والمؤسسي أو الشخصي، حلقات متصلة، وإن انفصلت، نجح القراصنة وتفوق المخترقون.