تأملت في الأيام الماضية جملة من الخطابات العربية المختلفة حول إحياء ذكريات جمعية متعددة مرتبطة بالوقائع والأفراد. وهي ظاهرة موجودة عند كل شعوب الأرض. ولقد لاحظت حجم العدوانية عند المختلفين حول ما تم في الماضي.
ويبدو لي أنه في مرحلة الأزمات الكبرى تنبعث أحقاد الماضي لتتحكم بالحاضر، وهذا خطر ما بعده خطر.
والذاكرة الجمعية في التعريف احتفاظ تيارات وطنية - قومية أو دينية أو سياسية - بوقائع ماضية حددت مسار التاريخ وأفراد رحلوا عن العالم، ولهم أثر مستمر في الحياة وتولد عنها طقوس في إحيائها والاحتفال بها بصور مختلفة.
والتأمل في الذاكرة الجمعية يصل إلى حكم صحيح ألا وهو أن الذاكرة الجمعية موقف وانتماء يفضي إلى سلوك.
ولا يترتب على الذاكرة الوطنية مثلاً أي نتائج غير محمودة، لأنها ذاكرة مشتركة. كإحياء ذكرى الاستقلال الوطني أو العيد الوطني، أو ذكرى عيد النصر، أو ذكرى إحياء ميلاد شخصية مجمع على أهميتها التاريخية لدى كل أفراد المجتمع.
لكن المشكلة تظهر في الاختلاف بين المجموعات وذاكرتها في وطن واحد حول الوقائع والأفراد، والذي يخلق العداوة ويكرسها.
دعونا نعرف هذه الظاهرة بذاكرة المخُتَلف عليه داخل المجموعات التي تنتمي إلى وطن واحد؟
إذا ما سردت ذاكرة المختلف عليه وطقوس إحيائه في عالمنا العربي فإني أحتاج إلى صفحات وصفحات، ناهيك عن الحذر الذي أنا عليه من تكدر خواطر هذه التيارات أو تلك. لا سيما أن الاختلاف حول وقائع الماضي ونخبه يخضع لأسباب أيديولوجية ودينية.
ولن أذكر المواقف المختلفة من أحداث تاريخية مثل تحرير القدس في الفترة الأيوبية، والتي تصل حد التناقض، وأنا لا أقصد هنا مواقف المؤرخين، وإنما مواقف الجماعات. لكن دعوني أضرب مثالاً على ذكرى واقعة معاصرة والموقف منها ومن قائدها الأساسي، أقصد ثورة يوليو في مصر 1952 وزعيمها عبد الناصر، وحسب القارئ العزيز أن يدخل على صفحة باسم الرئيس عبد الناصر، وصفحة باسم الملك فاروق، ليقرأ المواقف المختلفة حول الحدث، حيث تحيي مجموعة هذه الذكرى بنوع من الحب والتمجيد والحنين، وأخرى تحييها بالنكران.
نحن هنا لسنا أمام اختلاف المؤرخين أو الباحثين، بل أمام اختلاف الوعي الأيديولوجي لتيارات تنتمي إلى المرحلة الناصرية وزعيمها بكل ما فيها من أهداف وشعارات، ولتيارات تنتمي إلى المرحلة الملكية.
والحق أن تاريخ مصر منذ وفاة عبد الناصر 1970 لم يعد له علاقة لا بالناصرية كبنية ولا بالملكية أيضاً.
وبالمناسبة، إن اختلاف موقف الذاكرة الجمعية ليس وقفاً علينا نحن العرب. ففي أمريكا مثلاً هناك عيد يدعى يوم (كولومبس) ويوم كولومبس هو عطلة في الولايات المتحدة، وهو ذكرى اكتشاف الأمريكتين.
لكن السكان الأصليين يحيون في اليوم نفسه ذكرى اكتشاف أمريكا احتجاجاً على العبودية الجماعية.
والسؤال هو: كيف لاختلاف مواقف ذاكرة الجماعات المتعايشة في وطن واحد من الوقائع والأفراد وإحيائها يتحول إلى سبب لإثارة العداوة والبغضاء؟
يجب الاعتراف أولاً بأن التاريخ المشترك في الوطن الواحد هو الذي يتحول إلى عامل من عوامل الوحدة الوطنية والانتماء الوطني، وهذا التاريخ هو الذي يجب أن تحتفظ به الذاكرة الوطنية وتحتفل به.
وإذا ما احتفظت المجموعات بذكريات مختلفة تنتمي إلى مرحلة الصراعات، فإذا كان لا بد من إحيائها فيجب الاحتفال بها دون طقوس تثير العدوانية والبغضاء.
ويجب على البشر، كل البشر، الانطلاق من أن الماضي بخيره وشره زمن لن يعود، فيجب البحث عما يعزز العيش المشترك والتخلص من الخطابات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني