صحيحٌ أنّ حاضر الأزمة الأوكرانية هو الذي سيحدّد مستقبل أوكرانيا وأوروبا، ومصير التنافس الحاصل بين الأقطاب في العالم ككل. لكن ما الذي أرادته واشنطن من هذا التصعيد الخطير في علاقتها السيّئة مع موسكو، ومن سيكون المنتصر والمنهزم في الصراع الدائر الآن، وما هي معايير النصر والهزيمة لطرفيْ الصراع؟!.
واشنطن كانت تدرك أنّ القيادة الروسية ستقدم على عمليات عسكرية في أوكرانيا بعد رفض الإدارة الأمريكية للمسودّة الروسية التي قدّمها الرئيس فلاديمير بوتين ديسمبر الماضي، والتي جرى التفاوض بشأنها في جنيف، وحيث تزامن هذا الرفض الأمريكي مع تأكيد الرئيس جو بايدن عدم نيّة «الناتو» بمواجهة القوّات الروسية في أوكرانيا!.
في المقابل، كانت القيادة الروسية تؤكّد مراراً أنّ هدف العمليات العسكرية في أوكرانيا هو تحقيق جملة مطالب هي: إعلان حياد أوكرانيا وضمان عدم دخولها لحلف «الناتو»، وتعديل دستورها لتكريس الحياد والقبول بجمهوريتيْ دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين كدولتين مستقلّتين، والاعتراف بأنّ شبه جزيرة القرم أرضٌ روسية. لكنّ هذه المطالب كان لا يمكن تحقيقها عمليّاً دون تغيير نظام الحكم الحالي في كييف والسيطرة العسكرية الروسية الشاملة على أوكرانيا، وهي الأمور التي لم تستطع موسكو إنجازها في الأشهر الأخيرة. لذلك، أصبح معيار «النصر الروسي» في الحرب الأوكرانية الآن هو السيطرة الكاملة على شرق وجنوب أوكرانيا مع استمرار المراهنة على إضعاف الجيش الأوكراني المدعوم من «الناتو»، مع الحرص الروسي على عدم فتح أي جبهة عسكرية أخرى في أوروبا، طالما أنّ «الناتو» لن يتدخّل مباشرةً بقوّاته!.
على الطرف الأمريكي، كان معيار «النصر» هو عزل روسيا دوليّاً وعن أوروبا تحديداً، وإضعاف كبير للاقتصاد الروسي، وتشجيع المقاطعة الغربية والدولية لروسيا، بما في ذلك المجالات الفنّية والرياضية، إضافةً إلى الدعم المالي والعسكري الكبير لمن يقاومون القوّات الروسية في أوكرانيا، وحيث الباب قد شُرّع أمام «المتطوّعين الأجانب» للقتال ضدّ الجيش الروسي ومن انضمّ إليهم من عناصر وعاملين في أجهزة مخابرات غربية!. لكنّ هذه الأهداف الأمريكية لم تتحقق كلّها، فالاقتصاد الروسي ما زال قويّاً، والعلاقات التجارية لموسكو تتواصل مع دول عديدة في العالم، وأوروبا لم تستطع بعدُ التوقّف عن استيراد النفط والغاز من روسيا!.
كانت المراهنة الأمريكية على إطالة الأزمة الأوكرانية وعلى استنزاف القوّات الروسية فيها، وعلى بقاء الأسباب الداعية لعزلة روسيا ومقاطعتها. فإدارة بايدن استفادت وتستفيد من تداعيات الأزمة، حيث أعادت الآن اللحمة بين ضفّتيْ الأطلسي بعد التصدّع الذي حصل في ظلّ إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، كما أعادت الاعتبار لدور «الناتو» في أوروبا. أيضاً، في المجال الخارجي، أرادت واشنطن توجيه رسائل عديدة للعملاق الصيني في قضية تايوان والدول الحليفة لها في شرق آسيا.
لكن يتوقّف ذلك كلّه الآن على مدى صمود أطراف الصراع وعموم العالم أمام العواقب الاقتصادية الخطيرة لما يحدث الآن من صراع غربي/روسي تدفع شعوبٌ كثيرة ثمناً باهظاً له!. فهناك عدّة دول أوروبية (خاصّةً في غرب أوروبا) لا تريد استمرار هذه الأزمة وتداعياتها الخطيرة على أمن واقتصاد أوروبا، ولا هي براغبة في تصعيد الصراع مع روسيا بحكم الروابط الجغرافية والمصالح الاقتصادية والتجارية المشتركة معها.
ويبدو من وقائع الحرب الأوكرانية ونتائجها حاليّاً، أنّ أوروبا الغربية تريد في الحدّ الأدنى الآن العودة إلى ظروف الأزمة الأوكرانية في عام 2014 حينما جرى إدانة التدخّل الروسي في أوكرانيا آنذاك واتّخاذ عقوبات ضدّ موسكو، لكن دون الوصول إلى حالة القطيعة الكاملة معها، وبأنّ يتمّ وقف هذه الحرب الآن في حدودها العسكرية الراهنة، أي بقاء شرق أوكرانيا وجنوبها تحت السيطرة الروسية مقابل بقاء غرب أوكرانيا وشمالها تحت رعاية «الناتو» وبدعمٍ كبيرٍ منه لحكومة كييف، وهذا ما كان عمليّاً في مضمون المبادرة الإيطالية في شهر مايو الماضي، والتي لم ترحّب بها لا واشنطن ولا موسكو!.
إنّ صراع «الناتو» مع روسيا من خلال الحرب الأوكرانية انعكس بشكلٍ سلبيٍّ كبير على الاقتصاد الأمريكي، كما هو طبعاً على الاقتصاد الأوروبي، إضافةً إلى فشل واشنطن في عزل روسيا دوليّاً حتّى عند بعض حلفائها، وهذا ما سيفرض على إدارة بايدن التراجع في مواقفها والعودة إلى مضمون المبادرة الإيطالية مع تعديلات في نصوصها لترضي الجانبين الأمريكي والروسي. ومن المرجّح أن يحدث ذلك خلال أو بعد دورة الجمعية العامّة للأمم المتّحدة في أواخر سبتمبر المقبل، وقبل موسم الشتاء في أوروبا واستحقاق الانتخابات «النصفية» في الولايات المتّحدة.
*مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن