«لا تتوقع من رجال المخابرات أن يعملوا على خلق إرادة حقيقية تعبر عن مآلات الوطن وتطلعاته، أو حتى يتبنون رؤية قد تساهم في تغيير واقع اعتادوا على العيش لأجله، وهذا يبدو كافياً لنا بعد أن اخترنا الهدف، فالألغام لا تختار أهدافها ولكن الأهداف هي من يختار»، هذا ما جاء في رسالة «فيرويرد» مهندس الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إلى أحد رجال أمنه في ماسيرو الذين أوكل لهم زعزعة الأمن في ليسوتو.
ترتبط «ليسوتو» في الذاكرة الأفريقية بمؤسس أمة باسوتو الملك «موشوشو الأول»، الذي نجح في تأسيسها ككيان واحد عام 1822 واتبع دبلوماسية توفير الأرض والحماية لأعدائه المهزومين، مما ضاعف أتباعه وأغرى القبائل الأخرى بالإندماج تحت لوائه، فأطلق عليه شعبه اسم «لتلاما» وتعني بلغة السسوتو «الرابطة القوية»، إلا أن تنامي قوة أمة الباسوتو أغضبت البوير في الجنوب الأفريقي فبدأ الصراع بين الجانبين وانتهى بطلب «موشوشو» الحماية البريطانية وبذلك أصبحت ليسوتو إقليماً بريطانياً.
بعد استقلال ليسوتو عام 1966 برز دورها كعامل مؤثر في خط سير الأحداث السياسية في جوارها الإقليمي بسبب دعمها لنضال المؤتمر الوطني الأفريقي ومنحها اللجوء للفارين من حقبة الفصل العنصري مما أثار ضدها موجة أجبرت ساستها على تغيير موقفهم السياسي، في وقت غابت فيه الإرادة الشعبية ليحل محلها واقع لا يمثلها.
تلمست العاصمة ماسيرو طريقها للنهوض ونجحت أن تخلق لنفسها كياناً متفرداً في الجنوب الأفريقي، إلا أن احتدام الصراع هذه الأيام في أراضيها يبدو خارجاً عن إرادتها في ضوء امتلاكها للمياه العذبة أو ما يطلق عليه «الذهب الأبيض»، حيث تعتبر المياه في ليسوتو من أعذب أنواع المياه في العالم، وهذا ما يفسر دعم الولايات المتحدة لعجلة التنمية في ماسيرو والذي كان أثره واضحاً، بدليل استفادتها من قانون النمو والفرص في أفريقيا «أغوا» لتصبح أكبر مصدر للملابس لواشنطن من أفريقيا جنوب الصحراء، وتمويل الاتحاد الأوروبي لمبادرة «رينوكا» وتعني «نحن النهر» لاستعادة موارد المياه لمستقبل مائي آمن، ولتعزيز ذلك تمت دعوة الملك ليستي الثالث لإلقاء كلمة في المنتدى الأوروبي للشراكات الدولية في يونيو الماضي في دلالة واضحة على تنامي الحراك الدولي في ماسيرو.
وجدت ماسيرو في الدعم الإماراتي والخليجي فرصة لتطوير رؤيتها المستقبلية وتحويل البلاد لمركز تعبئة للمياه المعدنية وتصديرها للخارج، فمولت الإمارات مشروع البنية التحتية للمياه في ليسوتو، ودعمت خطة تنويع مصادر مياه الشرب مما يساهم في تلبية احتياجات السكان من المياه حتى عام 2025، وكان لموقف ليسوتو الداعم لدولة الكويت عام 1990 دور محوري في دعم الكويت لمصادر المياه وبناء السدود «سد ميتولونج» الذي يعتبر نقطة فارقة في تطوير الخطة المستقبلية لقطاع المياه الليسوتي.
أهم ما يؤرق ماسيرو اليوم هو إدراكها بأن إسقاط نظامها الملكي وإن كان دستورياً ليس صعباً إذا اقتضت المصلحة الدولية ذلك، واعتماد ليسوتو على جوارها الإقليمي لن يجدي نفعاً أمام توافق الرؤى السياسية حول الثروة المائية التي تتميز بها، مع إدراك الأطراف الدولية بأن ملوك ليسوتو على مر التاريخ من بعد المؤسس «موشوشو الأول» يفتقرون للقوة السياسية التي تمكنهم من المحافظة على عروشهم، بدليل إقدام رئيس الوزراء الأسبق «جوناثان» على تعليق صلاحيات الملك «سيسو» ونفيه إلى هولندا عام 1970 ونجاح اللواء «ليخانيا» بتقليص سلطات الملك ونفيه إلى إنجلترا، ولم يسترد حكمه إلا بعد أن أطاح القائد العسكري «رامايما» بالحكومة وتمت إعادة الملك إلى عرشه عام 1995 في دلالة واضحة على هشاشة النظام الملكي، وهذا ما أدركته حكومة رئيس الوزراء «ماجورو» فعملت على تدشين جهاز الأمن القومي استباقاً لأي تطورات مستقبلية.
يبقى السؤال هنا، ما الذي سيجعل سيناريو إسقاط الملكية الدستورية في ماسيرو أمراً قد تتوق لتحقيقه بعض القوى الدولية؟ وإذا افترضنا أنه وقع فعلاً، فما هو الدور الذي ستلعبه جنوب أفريقيا في ذلك، خاصة إذا علمنا بأن مشروع ليسوتو لمرتفعات المياه الذي يهدف لتزويد ليسوتو بالكهرباء من جنوب أفريقيا في مقابل توفير ماسيرو المياه لجنوب أفريقيا قد تطاله رياح السياسة الهوجاء؟ أم أن ضم ليسوتو الواقعة داخل أراضي جنوب أفريقيا إلى بريتوريا هو الأقرب على المدى البعيد لمواجهة التحديات التي تعترض مستقبل القوى الدولية في منطقة الجنوب الأفريقي؟!