هناك حالة «تكيّف» عربي، من جانب تيارات عديدة، مع بعض المشاريع الأجنبية ومع ظواهر انقسامية خطيرة تنخر الجسم العربي، كما هو الحال أيضاً مع واقع التدخّل الأجنبي، بل حتّى على مستوى الحركات السياسية ذات الصبغة الدينية أو القومية، فقد انتقلت شعارات بعضها من عموميات «الأمّة» إلى خصوصيات «المذاهب»، كما انتقل بعض «التيّار الديني» في أساليبه من الدعوة الفكرية إلى العنف المسلّح، وما يجلبه هذا الأسلوب من ويلات لأصحاب هذه الحركات ولأوطانهم وللأمّة معاً.
صحيحٌ أنّ هناك قوى وأجهزة أمنية لقوى إقليمية ودولية عديدة تتحرّك في بلدان المنطقة لخدمة غاياتٍ سياسية خاصّة، لكن من غير الإنصاف تجاهل مسؤولية الذات العربية عمّا حدث ويحدث في عدّة أوطان عربية.
لكن رغم ما سبق ذكره من أهمّية عدم إعفاء النفس العربية عن أوضاعها الراهنة، فإنّ هناك أيضاً خصوصية كبيرة للعامل «الأجنبي» في التأزيم الأمني والسياسي لعدّة دول عربية، وفي مراحل زمنية مختلفة.
نعم، هناك من يقوم بخوض معارك لصالح «أهداف أجنبية»، وهم عمليّاً يحقّقون ما يندرج في خانة «بعض المشاريع الإقليمية والدولية» للمنطقة من تقسيم طائفي ومذهبي وإثني يهدد وحدة الكيانات الوطنيّة، ويقيم جدراناً وحواجز بين مواطني الوطن الواحد والأمّة الواحدة.
إنّ نقد الواقع العربي ورفض سلبياته هو المدخل الصحيح لبناء مستقبلٍ أفضل. لقد كان من الإجحاف وصف العام 2011 بأنّه عام «الثورات العربية». فالثورة تعني تغييراً جذريّاً في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليست عملية تغيير أشخاص وحكومات فحسب.
ولعلّ ما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو مرآةٌ تعكس الفهم الخاطئ للدين وللهويّتين العربية والوطنية، ولمدى خلط بعض المعارضات بين الدعوة للتغيير وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين في وحل وهُوّة التفكير الطائفي والمذهبي والإثني، وبعدم الممانعة في الارتباط بقوى ومشاريع أجنبية.
جسد الأمة العربية المعرّض الآن لكثير من «الفيروسات الأجنبية»، والمصاب بحالة ضعف المناعة، يحتاج بشدّة لإعادة الحيوية إليه، في ظلّ أوضاع عربية كانت تسير في العقود الخمسة الماضية من سيئ إلى أسوأ، ومن هيمنة غير مباشرة لأطراف دولية وإقليمية إلى تدخّل مباشر في بلدان الأمّة، بل باحتلال بعضها.
أيضاً، فإنّ البلاد العربية هي أحوج ما تكون الآن إلى جيلٍ عربي جديد، يستند إلى توازن سليم في الفكر والممارسة بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية، جيل يرفض استخدام العنف المسلّح لتحقيق التغيير السياسي والاجتماعي في أوطانه العربية، جيل شبابي يجمع ولا يفرّق داخل الوطن الواحد، وبين جميع أبناء الأمَّة العربية.
فالمسألة هي ليست في رفع شعارات الديمقراطية فقط، بل هي في كيفيّة الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد، وبضمان أنّ طريق التغيير لن يمرّ في تجزئة الكيانات، إن لم نقل في إخضاعها للسيطرة الأجنبية أولاً!.
هنا مخاطر غياب دور الفكر السليم، ومساوئ عدم الوضوح في ماهيّة «الأفكار» أو طبيعة «القيادات» التي وقفت خلف الحراك الذي قام به الشباب العربي في أكثر من بلد. إذ لا يجوز أن يرضى هؤلاء الشباب أن تكون تضحياتهم هي لخدمة أفكار ومشاريع غير سليمة، تُعيد تكرار ما حدث في السابق في المنطقة العربية.
وحينما تعطي الحركات السياسية العربية الأولوية لتولي أنظمة الحكم، فذلك يعني بالنسبة لها بناء أطر حزبية فئوية ثمّ صراعات سياسية يومية مع «الآخر» في المجتمع، ثمّ صراعات لاحقة داخلية على السلطة والمناصب.. بينما الأولوية يجب أن تكون لإصلاح المجتمع وما يتطلبه ذلك من بناءٍ سليمٍ للدّعوة والدّعاة، ووجوب حسن الأسلوب في التّعامل مع «الآخر» بالوطن المشترك، واستخدام التأثير الإيجابي في الناس من خلال العمل الثقافي والفكري والاجتماعي، البعيد عن الفئوية والانتماءات الضيقة والمصالح الخاصة.