كمّ الأخبار المتواترة عن نضوب أنهار في مشارق الأرض ومغاربها مذهل. في الصين نضب 66 نهراً. في بريطانيا جف مصدر ومنبع نهر الـ«تيمز» وتحول إلى بركة راكدة. في أوروبا انخفض مستوى نهر الـ«راين» لمستوى قياسي، لدرجة أن نهر «لوار» الذي يمر في فرنسا حصرياً توقف تماماً عن الجريان.

وفي ألمانيا أدى الانخفاض الشديد في الـ«راين» إلى ارتفاع كلفة شحن البضائع، بالإضافة إلى المشكلات الكبرى التي تلوح في الأفق بسبب اعتماد الشركات الألمانية الكبرى على الـ«راين» لتزويدها بالطاقة. وفي إيطاليا تشهد بحيرة «غاردا» الشهيرة أدنى مستوى مياه فيها منذ 15 عاماً.

وفي سويسرا «خزان أوروبا للمياه» سجل مستوى المياه في البحيرات الواقعة في شرق ووسط وجنوب البلاد انخفاضاً شديداً. كما انخفض منسوب المياه الجوفية. كما سجل نهرا الـ«راين» والـ«رويس» أدنى مستوى صيفي لهما.

وفي أمريكا انخفضت مستويات اثنين من أكبر خزانات المياه بشكل خطير بسبب أزمة المناخ والاستهلاك المفرط للمياه، وهو ما قد يعرض إمدادات المياه والكهرباء للملايين في ست من الولايات الغربية والمكسيك لخطر داهم.

تداول البعض مقطع فيديو مرعب لرجل يقطع نهر دجلة سيراً على الأقدام. ورغم عدم التحقق من صحته، إلا أن الرسالة التحذيرية ليست بعيدة عن «أحجار الجوع». وعلى الرغم من إنها مجرد إعادة تداول لما نشر في عام 2018 من قبل مهتمين بشؤون البيئة ومهمومين بما ستؤدي إليه أنشطة البشر من آثار مدمرة على البيئة وتغيرات المناخ والطقس وموجات من الجفاف، وذلك على سبيل جذب انتباه سكان الأرض لعلهم يفقهون، إلا أن ما يشهده الكوكب من جفاف وحرائق وانخفاض مناسيب المياه وما ترتب عليها من أضرار للمزروعات وترشيد شديد يصل إلى حد التضييق لاستخدامات المياه جدير بتذكر «أحجار الجوع» مع دعاء وتضرع بألا يصل بنا الحال إلى إحيائها.

أحجار الجوع مكتوب عليها تواريخ الجفاف في أوروبا. موجات عدة محفورة سنواتها بين عامي 1417 و1893 مع رسائل مرعبة. «ستزدهر الحياة مرة أخرى بمجرد اختفاء هذا الحجر»، «الشخص الذي رآني (الحجر) ذات مرة، بكى، ومن يراني الآن سيبكي»، غيرها.

غاية القول، سواء أكانت معاودة ظهور «أحجار الجوع» حقيقة أم اقتراض من دفاتر الماضي، وسواء أكان الرجل فعلاً اجتاز دجلة مشياً أم كان الفيديو مفبركاً أم عملاً فنياً، فإن الجفاف لم يعد شبحاً بل ضيفاً ثقيلاً نتمنى ألا تطول إقامته. ونضوب أو انخفاض مناسيب الأنهار والبحيرات ليست بطاقة تحذير أو دعوة استنفار، بل هي أخبار نطالعها بصفة شبه يومية.

صحيح أن أيامنا صارت صعبة بسبب ما يجري حولنا، إذ نجاهد من أجل اللحاق بأخبار وآثار الحرب في أوكرانيا وتطورات التوتر بين الصين وأمريكا وتكهنات وضع حركة التجارة والنقل وما تحمله من بضائع لمشارق الأرض ومغاربها في ظل صعوبات ما أنزل الله بها من سلطان، إلا أن كل ما سبق قابل للحل وعلاج مخلفاته وآثاره. أما الجفاف ومخلفاته وآثاره، فعصية على العلاج إلا بشق الأنفس. وحتى الأنفس ستقف عاجزة أمامه لو لم يتم علاج الأسباب.

علاج أمراض القلب لا يتحقق على يد متخصص في علوم الفلك أو خبير في مجال الجيولوجيا. وإنقاذ العالم من الجفاف والأنهار والبحيرات من الاختناق والموت لن يحله الساسة وحدهم. قد ينجح الساسة في توقيف عجلة حرب هنا أو دعوة أعداء إلى طاولة سلام هناك، لكن قدرتهم على توقيف عجلة الجفاف ودعوة الأنهار لطاولة سلام واتفاق على استكمال سريان غير ممكنة، إلا باتخاذ قرارات قائمة على فهم البيئة ومتطلباتها وواضعة الإنسانية ومصيرها على رأس الأولويات.

وإبقاء الأنهار على قيد الحياة عين الأولويات. خبراء البيئة والمناخ يخبروننا منذ عقود أن تغير المناخ والتلوث والمبالغة في استخراج المياه من باطن الأرض والتنمية دون تخطيط أو وضع العنصر بيئة في الاعتبار أمور «قد» تؤدي إلى مقتل الأنهار. وها هي «قد» التي تفيد الشك والتقليل مع الفعل المضارع، تتحول «قد» التي تفيد التأكيد والجزم.

أما وقد جفت أنهار، ولو مؤقتاً، ولاح الخطر في الأفق، فقد وجبت سرعة التحرك الذي تأجل سريعاً. لم يعد «الجفاف» و«أفريقيا» وجهان لشبح واحد تحتكره القارة السمراء، بل صار متاحاً للجميع. والمنظمات البيئية الأممية تخبرنا إننا أمام خيارين: إما تأجيل الدفع وسداد ثمن باهظ في المستقبل القريب، أو دفع الفاتورة الآن. وخطوات الدفع معروفة: استثمارات مالية من قبل الحكومات والشركات في العمل المناخي، تحويل مصادر الطاقة من أحفوري إلى متجدد، وخفض الانبعاثات والتكيف مع التأثيرات. عموماً، غد «كوب 27» لناظره قريب.